أحاديث السلام في السودان

TT

تصاعدت أحاديث السلام في السودان بصورة لم تشهدها البلاد منذ حوالي 12 عاما، مع فارق أساسي هذه المرة يتمثل في بروز العامل الخارجي، الذي تعبر عنه الحركة النشطة للوسطاء الغربيين وترحالهم بين الخرطوم ورومبيك، حيث التقى الدكتور جون قرنق زعيم الحركة هؤلاء الوسطاء أمثال المبعوث الأمريكي جون دانفورث، والوزيرة البريطانية كلير شورت ورصيفتها النرويجية هيلدا جونسون. دانفورث الذي اختتم زيارته الأولى الى السودان في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بتهديد أنه سيقوم بتقييم الأوضاع منتصف هذا الشهر ومن ثم يوصي بالاستمرار في الوساطة أو اعلان الفشل، قام بتمديد انذاره، حيث أوضح بعد زيارته الأخيرة أنه سيرفع تقريره الى الرئيس جورج بوش في مارس (آذار) أو ابريل (نيسان) المقبلين.

الخطوات التي اقترحها دانفورث، من قبل، بدأ العمل بها ما عدا وقف القصف الجوي، في الوقت الذي أكمل فيه الطرفان الحكومي والحركة الشعبية مفاوضات فنية استضافتها سويسرا لضبط وقف اطلاق النار في منطقة جبال النوبة.

هذا الوضع أدى بدانفورث الى القول ان هناك احتمالا ببدء البحث الجدي في تحقيق السلام في غضون شهرين، مشيرا لأول مرة الى صورة الحل المنشود، عندما أشار الى انه لا يتوقع قيام دولة علمانية في السودان، وأنما المطلوب فقط الحفاظ على حقوق غير المسلمين، وفي ذات الوقت أعطى اهتماما لما يمكن أن تقوم به دول الجوار خاصة مصر وكينيا.

قرنق من جانبه أعطى تفصيلات اضافية بحديثه انه اذا تم الاتفاق على عدم الاتفاق حول القضية الأساسية في رأيه، وهي فصل الدين عن الدولة، فأن المجال سينفتح لاقامة اتحاد كونفيدرالي بين جزئي البلاد، وبعدها يمكن ان ينفتح الباب واسعا لوقف شامل لاطلاق النار وكيفية تقاسم الثروة النفطية، التي وصفها أنها ثروة قومية. الاشارات الواردة من الخرطوم تبدو مشجعة لفكرة الكونفيدرالية، ولهذا السبب مد قرنق يده الى غريمه السابق الدكتور رياك مشار مما أدى الى توحيد الفصيلين المتنافسين وبتركيز على فكرة الكونفيدرالية، وهي خطوة حسبت على أساس أنها تسهم في تقوية موقف الحركة عند البدء في المفاوضات الجدية لتحقيق السلام.

القراءة المتداولة ان طرفي الحرب وصلا الى ما يطلق عليه مرحلة التعادل السلبي والتعب من استمرار الحرب، وانهما اذا تركا لوحدهما فأن عقود الشك وسنوات الحرب الطويلة لن تمكنهما من انجاز صفقة السلام المرجوة، ولهذا يصبح التدخل الخارجي أمرا لا مناص منه، خاصة والحرب الأهلية في السودان أصبحت هي الأطول في القارة الأفريقية، مع تكاليفها الانسانية الكبيرة، ولكونها أصبحت عنصر عدم استقرار في المنطقة.

ولعل الأكثر تعبيرا عن التغيير في المناخ حضور الرئيس اليوغندي يوري موسفيني الى الخرطوم للمشاركة في قمة «ايقاد»، وقبل ذلك إعادة فتحه لسفارة بلاده قبل أربعة اشهر بعد ان استمرت مغلقة ست سنوات بسبب قطع العلاقات الديبلوماسية مع السودان.

موسفيني انتهز فرصة وجوده في الخرطوم ليخاطب الرأي العام السوداني مباشرة عبر محاضرة له أبرز ما فيها ان على السودان أن يقرر اذا أراد أن يصبح رأس جسر للعروبة والاسلام الى أفريقيا، أم رأس الرمح لهما، كما دافع عن مساندته للحركة الشعبية من باب انها رد على مساندة الخرطوم لجيش الرب المعارض.

وبعد عودته اتبع موسفيني تصريحاته تلك بتصريح آخر يبدي تفاؤلا أكثر اذ تحدث عن احتمال اغلاق المعسكرات في شمال يوغندا التي تضم نحو 400 ألف شخص هجروا مناطقهم بسبب نشاط جيش الرب المعارض في نيسان (أبريل) المقبل، وذلك بعد أن توصل الى اتفاق مع الخرطوم على تحديد نشاط قيادة الجيش المتمثلة في رئيسه جوزيف كوني.

تثير هذه التطورات بضع ملاحظات يمكن اجمالها في ما يأتي:

ان السلام كان قوب قوسين أو أدنى صناعة سودانية في الأساس في عام 1988 عندما توصل قرنق والزعيم الاتحادي محمد عثمان الميرغني الى اتفاقية سلام أجهضت، وقتها، بسبب المناورات الحزبية، حيث كان رئيس الوزراء وقتها الصادق المهدي يريد لاتفاق السلام أن يكون من خلاله. وبعد أن تغير موقف المهدي وتكونت حكومة جديدة جعلت تنفيذ السلام أولى أولوياتها والبدء في تنفيذ وقف لاطلاق النار من جانب واحد، وتحدد شهر سبتمبر (أيلول) 1989 موعدا للمؤتمر الدستوري لمناقشة كل القضايا، قام انقلاب الفريق عمر البشير ليقطع الطريق على تلك المحاولة.

أثنا عشر عاما لم تؤد فقط الى تفاقم الحرب وزيادة المعاناة الانسانية، واأنما فتحت الباب لحديث سياسي جديد يتعلق بحق تقرير المصير وقيام اتحاد كونفيدرالي بين جزءي البلاد، وهو الحل المرشح للتطبيق حاليا بعد أن اتضح أنه لا يمكن حسم قضايا بناء الدولة عبر حل عسكري حتى وان أعطي بعدا دينيا جهاديا. ثاني الملاحظات أن جهود السلام الحالية مع بعدها الخارجي الواضح تنطلق من حسابات مصلحة مشتركة خاصة في الجانب الاقليمي. فحديث موسفيني الذي لا تنقصه الصراحة عن العين بالعين في علاقات بلاده مع السودان تعني أنه بنفس القدر يمكن تسخير علاقاتهما في سبيل السلام والعودة الى المبدأ الذهبي في علاقات الدول وهو عدم التدخل في الشؤون الداخلية.

ويبرز هذا العامل بصورة أوضح في حالة الرئيس الاثيوبي ميليس زيناوي، الذي بدأ زيارته للخرطوم من ميناء بورتسودان الذي تعتزم بلاده استخدامه بديلا للموانىء الاريترية، كما قام بزيارة للمواقع الأثرية السودانية خاصة تلك التي ترتبط تاريخيا باثيوبيا وقدم محاضرة تناولت الجانب المغمور في علاقات البلدين. كينيا من جهتها تعتزم شراء النفط السوداني رغم الاعتراض على دور النفط في الحرب الأهلية، وهي في هذا تتحرك بدوافع اقتصادية صرفة.

وحتى الولايات المتحدة ستكسب بتحقيق السلام في بلد تحكمه طروحات اسلامية، الى جانب موضوع النفط والتأثيرات الاقليمية الايجابية المنتظرة من السلام في السودان.

موضوع النفط وحقوله التي تقع في الحواف بين جزئي البلاد التي يفترض أن تضمهما كونفيدرالية في اطار الحل المقترح، يمكن أن يكون النقطة المستعصية في ترتيبات الحل النهائي، لكنه يمكن أن يؤدي في النهاية الى ترتيبات سلام أفضل اذا وضع في الاعتبار استخدام عائدات النفط دعما للسلام بين طرفي البلاد مع الامتدادات الاقليمية التي تتوخى عنصر المصلحة المشتركة وهي الأبقى في الربط بين الدول.

تبقى نقطة الضعف الرئيسية في هذا الوضع أنه في الوقت الذي تتقاطع فيه الجهود الدولية والاقليمية لاحداث اختراق في جبهة السلام، تعيش القوى السياسية في الشمال حالة من الضعف والانقسام تجعلها أقل تأثيرا في ما يجري. لكن على غير المرات السابقة فان غياب أحد الأطراف السياسية السودانية يعيق جهود السلام، وان القطار يتجه الى التحرك هذه المرة بمن حضر. ان تحقيق السلام بأي ثمن يعتبر مكسبا لا يعادله مكسب، فلا شيء يبرر ازهاق الأرواح وتهجير السكان وهدر فرص التطور والتنمية تحت أي ذريعة مهما تمسحت بدعاوى ايديولوجية.