الأقارب... أولى بالخصومة!

TT

الضجة الاخرى وليست الاخيرة داخل الاأسرة المهدية كانت متوقعة على رغم محاصرتها، بل انها كانت اذا جاز التشبيه مثل صراخ في دار مقفلة لا يسمع بها سوى اهل البيت الواحد، ولمجرد أن فُتحت الابواب على مصاريعها بدا الضجيج كما لو انه دوي تفجير.

كان مبارك الفاضل المهدي احد ابناء العمومة هو من فتح الابواب التي نشير اليها مدفوعاً بتحقيق تطلعاته المحجور عليها متأثراً بالاسلوب الذي اعتمده الرئيس عمر البشير مع شريكه الدكتور حسن الترابي، مع الفارق ان مبارك المهدي يصنف نفسه شريكاً وأن الصادق المهدي لا يعتبره ذاك الشريك. وجاء فتح الابواب من خلال مقابلة صحافية أجريت مع الرجل الطموح وضع فيها امام كل السودانيين ما في صدره من مطالب واحتقانات، مثيراً القضايا العالقة الشائكة وابرزها مسألة الزعامة بالتوريث ومسألة الإمامة العالقة لطائفة «الأنصار». ومن خلال قراءة ما بين سطور تصريحاته التي نُشرت مطلع كانون الثاني (يناير) من العام الجديد 2002، بدا مبارك المهدي كمن يريد تهشيم صورة الصادق المهدي كزعيم سياسي مرموق على المستوى المحلي وعلى الصعيد العربي والاسلامي والدولي، كما بدا كمن يريد ايقاظ بعض المشاعر داخل طائفة «الأنصار» لعل اصحاب هذه المشاعر ينضمون اليه ويشكلون سنداً له في المبارزة التي اختارها مع الصادق الذي من خلال قراءة التصريحات يرفض مبارك اعتباره ولي نعمته السياسية، او أنه استاذه الذي درَّبه على علم السياسة وتولى تسويقه في اوساط ما كان مبارك ليصل اليها من دون هذا التسويق المدعوم.

من جملة ما قاله مبارك المهدي وما اثاره في تصريحاته هو أنه لا بد من الفصل بين إمامة الطائفة وقيادة حزب «الأمة». وقصده على نحو فهمنا لنوايا الرجل وتطلعاته أن يكون الصادق هو الإمام وأن يتم عندئذ مبايعة مبارك ليكون رئيس الحزب وزعيمه. وهو في ذلك منسجم مع نفسه ويعرف ان قدراته الفكرية دينياً هي دون قدراته السياسية بكثير وأنها لا تسمح له بأن يجمع المنصبين في شخصه. اما قوله في التصريحات بأن السيد احمد المهدي «أحق بالإمامة» فبغرض ان تتزايد رقعة الشقاق بين العم احمد وابن اخيه الصادق من جهة وأن يستقطب مبارك الى صفه الجماهير الأنصارية التي ترى ان عدم تتويج السيد احمد إماماً سببه الصادق الذي يريد المنصبين: «الإمامة» و«الرئاسة».

وعند هذا الحد تبدو مناورة مبارك المهدي طبيعية بالنسبة الى سياسي له تطلعاته ومتأثر ضمناً بالنهج الماكيافيلي. لكن المناورة لا تعود مقبولة من جانب ابن العم (الصادق) واسرته الصغيرة (زوجتاه سارة وحفية، وابناؤه عبد الرحمن وصدِّيق ومحمد احمد، وبناته ام سلمة ورندة ومريم وزينب ورباح وطاهرة) عندما يتهم الصادق بالازدواجية وكيف «انه في الوقت الذي ظل يدعو الى اسقاط عامل الوراثة والنسب في الترقي داخل الحزب لم يطبِّق ذلك على أسرته»، غامزاً في ذلك من قناة الزوجة سارة التي تشغل منصب العلاقات الخارجية في الحزب والابنة مريم المسؤولة عن شؤون المرأة والابن الثاني صدِّيق المسؤول عن شؤون المال. كما ان التصريحات لمست اعتماد الصادق اسلوب التعيين في المناصب وليس قاعدة الانتخاب، علماً بأن ما يفعله الصادق في مسألة التعيين المعتَرَض عليها من جانب مبارك هو اسلوب سائد في العالم الثالث وان معظم الحكام يعتمدون هذا الاسلوب، وإذن فلا غرابة في ذلك مع الاشارة الى ان مبارك المهدي نفسه مشمول بهذا الاسلوب التعييني، وإلاَّ فكيف تجاوز شخصيات تاريخية كثيرة في «حزب الامة» ووصل الى المنصب القيادي الذي وصل اليه لولا انه ابن العم المدلل داخل الاُسرة. كذلك من المهم الاشارة الى ان التعيينات التي اعتمدها الصادق شملت من هم على درجة من الكفاءة والثقافة والتأهيل العلمي الجامعي بدءاً من الزوجة سارة ذات الماضي النضالي في الحزب وبالذات في سنوات الاغتراب القسري وسنوات الاعتقال السبع التي امضاها الصادق في سجن «كوبر» او في الاقامة الجبرية، والابنة مريم الطبيبة وصدِّيق الذي تخرَّج مهندساً بترولياً من جامعة الكويت (بقية الابناء والبنات من الزوجتين حفية وسارة في المستوى التعليمي نفسه: الابنة رباح مهندسة كهربائية وزينب مهندسة وطاهرة طبيبة وعبد الرحمن تخرّج من الكلية الحربية في الاردن ومحمد احمد على طريق التخرج الجامعي). وقد يجوز الافتراض ان هذه الوثبة من جانب مبارك المهدي شكلت طعنة معنوية في نفس الصادق لعلها الأكثر إيلاماً خلال الفترة التي امضاها خارج السودان بعد مغادرته المثيرة لمنزله في الخرطوم فجر يوم الاثنين 9 ديسمبر 1996 في اتجاه اريتريا ووصوله ظهر اليوم التالي الى اسمرة، وذلك بفعل عملية تهريب متقنة تولاّها بكره عبد الرحمن صاحب الخبرة العسكرية. فهو وضع كل الاوراق بين يدي مبارك، وسايره التاريخيون الآخرون امثال الدكتور عمر نور الدائم في تفضيله ابن العم على بقية الرفاق هدياً بالقاعدة المعمول بها في انظمة دول العالم الثالث وهي ان اهل الثقة يتقدمون على اهل الخبرة.

ولكن على رغم هذه الطعنة والانزعاج الشديد من مشاعر الشماتة التي سادت في اوساط المتحفظين اصلاً على هذا التميز لمبارك المهدي، فإن الصادق اعتمد أسلوب «الكاظمين الغيظ» فلم يرد على التحية الخشنة بمثلها مكتفياً بإحالة الامر الى الطقوس الحزبية في مثل هذه الحالة، وعلى نحو ما حدث قبل ذلك مع قطب انصاري آخر هو بكري عديل الذي انتفض في لحظة ضيق فقال عبر الصحافة الكلام الذي رأى فيه الصادق انتقاصا من هيبته. ثم ما لبث الصادق بعدما قررت قيادة الحزب تعليق عضوية بكري عديل ان منحه عفواً من دون ان تنحسر مشاعر انزعاج الصادق مما فعله المعفى عنه، هذا مع الأخذ في الاعتبار أن الانتقاد عندما يأتي من انصاري ليس من العائلة يمكن معالجته بالاسلوب التأديبي الذي يعاد النظر فيه وبحيث يكون من تم انزال العقاب فيه راضياً لأن الأعلى (وهو هنا الصادق) منحه عفواً، في حين ان العلاج يصبح على جانب من الصعوبة عندما يأتي النقد من ابن العم وبالذات من مبارك الفاضل المهدي الذي يتطلع الى ان يكون في المنصب الأعلى، او بتشبيه آخر يكون شريكاً على نحو الشراكة التي كانت بين الرئيس عمر البشير والدكتور حسن الترابي علماً بأن هذه الشراكة اثمرت موسماً واحداً ثم اصاب الكساد بقية مواسم الحكم والسلطة. كما ان العلاج يصبح على جانب من الصعوبة عندما يجعل مبارك ما هو خاص امراً عاماً يتندر به الآخرون، ونعني بذلك الحديث عن توزيع المناصب والمسؤوليات على الزوجة والابناء على نحو ما اوضحناه في سطور سابقة. ومن هنا يصعب التوقّع بأن الروح الرياضية ستلعب دورها وبحيث لا يتوقف الصادق عند مسألة انه من بيت ابن عمه ضُرِب، ويطوي الاثنان صفحة مشوَّشة في تاريخ الاُسرة كي لا تكون هنالك فرصة امام الشامتين عملاً بالقول الشائع: أنا على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب. والذي قد يجعل مثل هذا المستحيل ممكناً هو أن الأسرة المهدية التي هي احدى اصلب قلاع النفوذ الليبي في السودان ارتضت دخول الدكتور علي التريكي على خط الازمة في محاولة لرأب الصدع.

ينجح المسعى الليبي ام يتعثر؟ يتبدد الحذر في النفوس المهدية ام يبقى على حاله؟ يقرر قطبا الصراع وهما السيد الصادق وابن عمه مبارك انتهاج اسلوب تعامُل جديد ام لا يحدث ذلك؟ يُسلّم مبارك بأن قامته ليست بطول قامة الصادق على الصعيد الانصاري والصعيد السوداني والصعيدين العربي والدولي فيرتضي ان يكون مع آخرين على جانب الرجل الاول في الطائفة والحزب وليس الثاني له، ام لا يُسلّم؟ يضطر الصادق شخصياً او من خلال طرف ثالث في الكيان الانصاري الى ان يكشف كل الحقائق حول الاتصالات والعلاقات التي بناها مبارك المهدي في غياب الصادق وفي غفلة عنه وبسببها اضطر للهروب من السودان والالتحاق بالمعارضة في الخارج كي لا يتوغل مبارك اكثر واكثر في ما بدأه، ام يتريث على اساس ان الشظايا عندما تتناثر بعد تفجير لا تميز بين هذا وذاك وذلك... واولئك بدءاً بمحيط «قبة المهدي» وصولاً الى الجزيرة «أبا»؟ هذه التساؤلات وغيرها تبقى الاجابة الواضحة والحاسمة عنها في علم الغيب مؤقتاً الى ان ينجلي الغبار وتتبين حقائق مشهد الخلاف الذي يعصف بطائفة وحزب، وخطورته هذه المرة ان الجيل الثالث في الطائفة دخل طرفاً اساسياً في هذا الخلاف.

ومع أن ما يصيب طائفة «الانصار» و«حزب الامة» اصاب من قبل طائفة الختمية وحزبها (الاتحادي)، واصاب ايضا الحزب الشيوعي، ثم اصاب حزب نميري وحزب الترابي وكيف ان محنة الانقسام شملت كل هؤلاء.. إلاَّ ان الضجة التي احدثها مبارك المهدي تختلف عن غيرها لأنها في حقيقة الامر اقل من تمرد على الزعامة الاولى للاُسرة المهدية طائفة وحزباً واكثر من محاولة انقلابية يصعب الجزم بأنها فشلت او يمكن التوقع بأنها ربما تنجح، وان مبارك الفاضل المهدي قاد هذه المحاولة من خلال تصريحات بدت وكما لو أنها البلاغ رقم واحد لـ«حركة تصحيح»... ينقصها المصحح المؤهَّل.