تذكر مارتن لوثر كينغ الحقيقي

TT

يحيي الاميركيون في مختلف انحاء الولايات المتحدة، الاسبوع الحالي، ذكرى ميلاد الدكتور مارتن لوثر كينغ. ومن المناسب ان نجل كينغ، زعيم الحقوق المدنية الكبير، ساعدت جهوده على اعادة صياغة الحياة السياسية والاجتماعية الاميركية.

فقد ضمنت الحركة التي قادها كينغ حقوق التصويت للاميركيين الافارقة المحرومين منها، والذين ما زالوا بعد 100 سنة من الإنهاء الرسمي للعبودية في الولايات المتحدة ضحايا التمييز القاسي. وأدت حركة الحقوق المدنية هذه ذاتها الى ازالة التمييز العنصري، وهو نظام قانون وممارسة كان قد قسم اميركا الى عالمين متميزين، عالم اسود وآخر ابيض.

ان جيلا بأسره من الاميركيين لا يدرك حقائق الحياة الاميركية قبل 40 عاما فقط. ففي اجزاء عديدة من بلادنا لم يكن بوسع الاميركيين الافارقة ان يشتروا العقارات، او يقيموا المشاريع، او ينتسبوا الى المدارس.. الخ في المناطق المجاورة «البيضاء فقط». وكان الصراع الذي قاده كينغ لازالة عوائق العزل العرقي في السكن والتوظيف والتعليم واسباب العيش صراعا شاقا. وعلى الرغم من انه كان لا عنفيا، فقد جرت مجابهته بالعنف. واعتقل الآلاف من المحتجين وتعرضوا الى الضرب. وفقد كثيرون حياتهم. وفي نهاية المطاف كان كينغ وحركته المنتصرين، وغيرا، الى الابد، وجه اميركا.

غير ان المهمة ما تزال غير منجزة. فبينما انتهى العزل القانوني، يستمر ارث التقسيم العرقي على ملازمة اميركا.

ففي عام 1964 تضمنت صكوك نقل الملكية العقارية في المنطقة التي اعيش فيها شمال غربي واشنطن «ميثاقا» يحظر بيع تلك الملكية الى الاميركيين الافارقة. وبعد 37 سنة من اعتبار تلك المواثيق باطلة وملغاة، تبقى العاصمة الاميركية واشنطن مدينة مقسمة على نحو استثنائي. وعلى الرغم من ان ثلثي سكان المدينة هم من الاميركيين الافارقة، فان واشنطن مقسمة الى نصفين تقريبا من الشمال الى الجنوب، بروك كريك بارك. فأحد جانبي «البارك» يضم ما يزيد على 90 في المائة من البيض، بينما يضم الجانب الآخر 90 في المائة من السود.

وترافق ذلك التقسيم الطبيعي فوارق كبيرة في الدخل، والبنية الاساسية، والخدمات، والفرص. وكلها تذكرنا بأن هناك مهمات لا بد من انجازها لاستكمال عمل الدكتور كينغ.

وسيتضمن الكثير من احتفالات احياء ذكرى ميلاد كينغ مفردات برنامج آخر. فسيعيد المحتفلون الى الاذهان بأن كينغ لم يواجه، في كفاحه من اجل الحقوق المدنية والعدالة، مقاومة ووحشية مسؤولي هيئات تنفيذ القوانين المحليين المؤيدين للفصل العنصري فقط، وانما ايضا تحديات لحرياته المدنية. فمن المعروف تماما كيف ان بعض المسؤولين الفيدراليين كانوا يتجسسون على حركة الحقوق المدنية وسعوا الى تعطيل عملها. وجرى تشخيص كل هذا في اواخر الستينات بعد ان بدأ الدكتور كينغ تطوير اجندة دولية وتحدى الحرب في فيتنام.

ولهذا من المهم القيام بجهد، في العام الحالي، ومرة اخرى، لإيجاد آصرة بين الكفاح من اجل الحقوق المدنية والحريات المدنية، وربط الكفاح من اجل السلام العالمي والعدالة مع الكفاح الداخلي من اجل السلام والعدالة.

وفي اول الجهود الاحتفالية في العام الحالي عقد اجتماع حاشد في مركز المؤتمرات بواشنطن. ولعب المعهد العربي ـ الاميركي ومجلس الشؤون العامة للمسلمين دورا رئيسيا في الاعداد لهذا الحدث بالتعاون مع منظمات رئيسية للحقوق المدنية والحريات المدنية مثل اتحاد الحريات المدنية الاميركي، ومؤتمر الزعامة المسيحية الجنوبي، وشبكة العمل الوطني، والمؤتمر التشريعي للسود، والمجلس الوطني للاميركيين المكسيكيين، والاتحاد الحقوقي الوطني للاميركيين من آسيا والمحيط الهادي، ومنظمات اخرى كثيرة.

وكان من بين اهداف هذا الحدث، الذي حمل اسم «دعوة الى حوار عام لحماية الحريات المدنية»، الدفاع عن الحريات المدنية للاميركيين العرب والاميركيين المسلمين في المرحلة الصعبة ما بعد 11 سبتمبر (ايلول) الماضي. وفي «الدعوة» التي اعلنت الاجتماع حدد المنظمون هدفهم السياسي، قائلين: «بينما تقترب الذكرى السنوية لميلاد الدكتور كينغ، فان تراثه يذكرنا بالحاجة الى دفاع فعال وصريح عن الحريات المدنية والحقوق المدنية خلال هذه الايام الصعبة. وفي مرات كثيرة خلال اوقات الازمات الوطنية استخدمت الحكومة التهديد بالتحقيق او القيام بعمليات التحقيق الفعلية لاسكات اصوات العدالة الاجتماعية، والحقوق المدنية، والوقوف ضد الحرب.. ان الحرب الضرورية والمشروعة ضد الارهاب يجب ألا تستخدم لاغراض التوسيع الدائم لسلطة الحكومة بدون ضوابط، او إضعاف ميثاق الحقوق.. ان اميركا على مفترق طرق.. يجب علينا ان نرتفع الى مستوى المسؤولية ونطالب حكومتنا بمكافحة الارهاب بطريقة لا تنتهك المبادئ الدستورية والقيم الاميركية».

ان هذا الدعم غير المسبوق للحريات المدنية للاميركيين العرب والاميركيين المسلمين كبير الاهمية. وهذا جلي للعيان ليس فقط في حدث كينغ بواشنطن، وانما في احداث وفعاليات اخرى نظمت، الاسبوع الحالي، في انحاء مختلفة من الولايات المتحدة.

ان ما يتمتع باهمية في هذا الاطار ايضا هو انه بطرح قضايا الحقوق المدنية والحريات المدنية، الحاسمة والمتسمة بالتحدي، فان فعاليات احياء ذكرى ميلاد كينغ اتسمت بمكانة رائدة. واستطيع ان اتذكر عندما اقمنا، في الثمانينات، مسيرة في واشنطن، بمناسبة يوم ميلاد الدكتور كينغ، وطالبنا بيوم ذكرى وطني ليس فقط لاجلال الرجل، وانما ايضا لتأكيد تعهد البلاد بانجاز مهمته. وقد تنبأ احد الزعماء الاميركيين الافارقة من ذوي البصيرة العميقة، وبمشاعر الاسف انه «قد ننتصر، وقد نحصل على يوم العطلة الوطني هذا، ونعيش حتى نرى ذلك اليوم لنكتشف ان الدكتور كينغ الذي يجله السياسيون هو ليس كينغ الذي عرفناه».

والحقيقة ان هذا التحويل في ارث الدكتور كينغ ظل يجري خلال العقد الماضي. فقد اصبحت صورة كينغ عائمة، وجرى تجاهل واقع العنصرية الذي جابهه، وكذلك التحدي الجذري والثوري الذي مارسه ضد «الاوضاع القائمة».

ولهذا فان الاحداث التي تنظم هذه السنة تقدم ترياقا هاما لاعادة النظر هذه. وهذا هام لمصلحة التاريخ، وهام لقضايا الحقوق المدنية والحريات المدنية، وعلينا ان نتذكر الصراعات الحقيقية التي جابهها كينغ، وان ننظم كفاحنا من جديد لمواجهة التحديات التي تقف امامنا في مجال الحقوق في الوقت الحاضر.