لا جديد عند كلينتون

TT

تخلفت عن حضور المنتدى الاقتصادي الذي عقد في جدة واستضاف الرئيس الاميركي السابق بل كلينتون لانني لم اتلق دعوة بالحضور وهو امر طبيعي لان الدعوات كانت قاصرة على رجال الاعمال، وانا لست واحداً منهم لتشرفي بالانتماء الى الرجال الكادحين، وعرفت مما نشر بالصحف ان رسم الدخول لغير المدعوين 5000 دولار أميركي، وهو مبلغ زهيد بالنسبة للمنتديات الاقتصادية، حيث يصل رسم الدخول الى المنتدى الاقتصادي في دافوس (سويسرا) الى 120 الف دولار اميركي للشخص الواحد.

غير ان الاخذ بنظرية النسبية لا ينصرف فقط الى المقارنة بين رسوم الدخول للمنتديات الاقتصادية المختلفة، وانما يفرض ايضا السلم التفضيلي للانفاق كما يقول الاقتصاديون بين حضور المنتدى الاقتصادي في جدة، وبين اشباع غيره من الحاجة الى السلع والخدمات، وهي تجب المنتدى الاقتصادي عندي وتجعل مسألة الحضور له برسم الدخول المطلوب غير واردة اصلاً بالنسبة لي، خصوصاً وقد ضاق صدري من الرئيس السابق كلينتون وآرائه طوال ثماني سنوات عندما كان في السلطة سنة 1992 الى سنة 2000، ولا أظنه بقادر على اضافة جديدة بالرأي الحر المستقل بعد خروجه من السلطة، لانه لا يزال خاضعاً للحسابات السياسية القائمة في بلاده، من أجل خاطر زوجته السناتور هيلاري كلينتون عضو الكونجرس عن ولاية نيويورك احد معاقل اليهود الرئيسية، ولم تحصل على تمثيلهم بالكونجرس «إلا بالاتي واللتية» لتصريحاتها عن القدس المتناقضة مع التوجه الاسرائيلي عندما كانت سيدة البيت الابيض، فقدمت اثناء حملتها الانتخابية الندم على قولها والاعتذار عنه واعلنت تأييدها المطلق بجعل القدس عاصمة أبدية لاسرائيل، حتى رضي اليهود عنها ففازت بعضوية الكونجرس، ويخشى بل كلينتون في اثناء جولته بالشرق الاوسط من انزلاق لسانه بقول يغضب اليهود في نيويورك فيسخطون على زوجته هيلاري فلا يجددون لها حق تمثيلهم في الكونجرس.

لم تأت فقط حساباته في مراعاة خاطر اليهود بالقول والفعل، وهو خارج السلطة من أجل زوجته هيلاري، وانما جاءت ايضاً لخدمة مصالحه الذاتية في العمل العام الذي يستهدف الربح بعد ان اصبح رمزاً اميركياً مثل كل الرؤساء السابقين، وجاءت جولته في بعض دول الشرق الاوسط معبرة عن دوره في العمل العام على المستوى الدولي، وهذا ما جعل حديثه بداخل المنتدى الاقتصادي في جدة، وما جاء بمحاضرتيه في دبي والقاهرة مقيداً بالسياسة الخارجية الاميركية الى الدرجة التي جعلت بعض الحضور للمنتدى الاقتصادي في جدة يقولون كأن خطابه قد أعد بعناية دبلوماسية فائقة من قبل ادارة الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الاميركية.

لا شك ان كثيراً من فقرات خطاب الرئيس السابق كلينتون بالمنتدى الاقتصادي في جدة عكست روابطه الشخصية الحميمة مع اسرائيل، آخر المحطات في جولته داخل اقليم الشرق الاوسط وهذه الزيارة لها دوافع خفية غير معلنة تتعلق بأدوار جديدة له بالاقليم، تسترت وراء ما اعلن قبل عام عن قرار جامعة تل ابيب بمنحه درجة الدكتوراه الفخرية، وأقام ايتامار رابينوفيتش رئيس الجامعة حفلاً كبيراً يوم الأحد الماضي 20 يناير عام 2002، دعي اليه وزراء في الحكومة ونواب في البرلمان واساتذة بالجامعة وعدد من الرجال والنساء كان لهم دور في عملية السلام، وجاء في خطاب الدكتور ايتامار رابينوفيتش ان الجامعة اتخذت قرارها بمنحه درجة الدكتوراه الفخرية اعترافاً منها بجليل اعماله اثناء رئاسته للولايات المتحدة في خدمة السلام بمختلف اقاليم العالم، بما فيها محاولاته الجادة المتعلقة بقضية السلام في الشرق الاوسط دون ان ينسى مد جسور الود بين شعب وحكومة الولايات المتحدة الاميركية، وبين الشعب اليهودي وحكومة اسرائيل ومطالباً باستمرار ادواره الشخصية بعد خروجه من السلطة في خدمة قضية السلام بمنطقة الشرق الأوسط تحت مظلة الود المتبادل بين اميركا واسرائيل.

تكشف كلمة رئيس جامعة تل ابيب الدكتور ايتامار رابينوفيتش الغرض الخفي من زيارة الرئيس الاميركي كلينتون لاسرائيل، الذي اقترح منذ خروجه من البيت الابيض على الرئيس جورج بوش مواصلة جهده في العملية السلمية بمنطقة الشرق الاوسط، ولكنه لم يلتفت لاقتراحه غير ان الظروف المستجدة التي جعلت اميركا تعيد حساباتها في وساطاتها السلمية بين الفلسطينيين والاسرائيليين تحسباً للصدام مع رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون الذي يرفض كل ضغط اميركي عليه يخرجه عن مساره القتالي ضد الشعب الفلسطيني بغرض ابادته والاستحواذ على اراضيه في سبيل اقامة اسرائيل الكبرى، وقد عبر عن هذه الحقيقة صوتان رسميان اميركيان أولهما وزير الخارجية كولن باول الذي قرر بان الوساطة الاميركية في قضية الشرق الاوسط اصبحت غير مجدية وجهداً مهدراً يصعب على اميركا الاستمرار فيها طالما يواصل الفلسطينيون اعمال العنف ضد اسرائيل التي يصبح من حقها المطلق الدفاع عن النفس، وهذا ما جعله يفاجئ العالم بوصف العدوان الاسرائيلي المكثف في ليلة 10/9 يناير عام 2002 الذي ترتب عليه هدم 75 منزلاً في رفح على رؤوس سكانها من الفلسطينيين برد الفعل الطبيعي الاسرائيلي تحت مظلة الدفاع عن النفس.. وثانيهما المندوب الاميركي الدائم لدى الامم المتحدة جون نيجروبونتي الذي أكد أن الضغوط الاميركية على اسرائيل لن تجدي في دفع قضية السلام بالشرق الاوسط الى مسارها الطبيعي يبن الفلسطينيين الذين يواصلون العنف، وبين الاسرائيليين الذين يقومون بالدفاع عن النفس، وان كل محاولة ضغط على اسرائيل في ظل هذين الموقفين المتناقضين سترتب نتائج اكثر خطورة من الوضع القائم في داخل اقليم الشرق الاوسط وستدفع اسرائيل الى اساءة الادب مع اميركا التي تطالبها بوقف الدفاع عن نفسها دون ان تستطيع الزام الفلسطينيين بوقف اعمال العنف ضدها، وهذا القول المبني على الحسابات السياسية الخاطئة جعل البيت الابيض يجمد وساطته السلمية حتى لا تستمر اميركا في الدوران داخل حلقة مفرغة لا تتفق مع مكانتها الدولية المتميزة، وحتى لا تتناقض مع نفسها بمحاربة الارهاب في اقليم شرق آسيا، وتحاول التفاهم مع الارهابيين في اقليم آخر بالشرق الأوسط.

ردود الفعل العنيفة من داخل اميركا وخارجها على قرار البيت الابيض بتحديد وساطتها السلمية التي ترتب عليها اطلاق يد شارون ليعمل على هواه وبأسلوبه العسكري في معالجة الموقف مع الفلسطينيين، جعل المتحدث الرسمي باسم الخارجية الاميركية ريتشارد باوتشر يصف تدمير المنازل في رفح ودكها على رؤوس سكانها بالعمل الاستفزازي الاسرائيلي ليخفف من وقع كلام كولن باول، وجون نيجروبونتي ولكنه لم يخرج عن اطر السياسة الخارجية الاميركية بقوله ان اميركا تتفهم موقف اسرائيل في اتخاذ مثل هذه الخطوات لحماية أمنها، الامر الذي يجعل من هذا العمل الاستفزازي ليس عدواناً وانما هو دفاع عن النفس فانطبق على ريتشارد باوتشر القول المعروف «فسر الماء بعد الجهد بالماء».

أدرك المثقفون الاسرائيليون خطورة اطلاق يد شارون على الوطن الاسرائيلي لان توسعه في حركة ابادة الفلسطينيين القائمة اليوم تحتاج الى التوسع في ارسال الابناء والبنات الى ساحة القتال، وستقابلها ايضا ردود فعل فلسطينية ضد المواطنين الاسرائيليين بالاعمال الانتحارية، فارادوا ملء الفراغ الأمني المترتب على تجميد الوساطة الاميركية فتطلعوا بانظارهم الى الرئيس الاميركي السابق كلينتون ليقوم بدور الوساطة السلمية نيابة عن الادارة الاميركية وبتكليف منها، خصوصا انه راغب فيها ويبيحها الدستور الاميركي بسوابق الادوار التي قام بها من قبله الرؤساء السابقون الاميركيون، ومن بينهم الرئيس الاميركي الاسبق جيمي كارتر الذي يقوم بمهام دولية حتى الآن بتكليف من الادارة الاميركية، اذا نظرنا الى خطاب الرئيس كلينتون بالمنتدى الاقتصادي في جدة من زاوية فهمنا وتفسيرنا للاحداث لوجدنا كلماته تمثل برنامج عمل لدور الوساطة التي يرغب فيها ويسعى الى الحصول على تكليف بها من الادارة الاميركية.. فوصف الارهاب بانه يأتي من الذين لا مستقبل لهم، وهو قول باطل لانه يلغي حق ابناء المقاومة الفلسطينية باعتبارهم أناساً لا مستقبل لهم ويرضي اميركا واسرائيل لانهما تنظران الى الكفاح الشعبي الفلسطيني من زواية تصفه بالارهاب ويؤكد قدرته على الوساطة بقوله ان السلام لا بد ان يتم بين الفلسطينيين والاسرائيليين في يوم ما، ويطالب قادة العرب بالتعاون معه عن طريق تهيئة الشعب العربي لقبول السلام العادل، ويحذر من ازدياد المشاكل عمقاً بين الطرفين اذا لم يتفقا على حل وفقاً للمصالح السياسية والاقتصادية للطرفين، ويدعو الى اقامة الدولة الفلسطينية عن طريق ايجاد التوازن الشرعي في امتلاك الأرض بينهما وهذا البرنامج وما يفرضه من توجه يجعل الفراغ الأمني باقياً حتى قيام وساطة كلينتون.