الرصاصة الأخيرة أم الأولى؟

TT

كان ايلي حبيقة سيرة معقدة وحياة معقدة وموتا غامضا مثل حياته. بدأ حياته موظفا بسيطا في مصرف ثم اختار مهنة القتال، فبرع وترقى في انفاق ودهاليز الحرب اللبنانية. بدأ مارونيا بلا حساب او تحسب وصار عروبيا بلا تلكؤ. ذهب الى اسرائيل طالبا ان تساعده وعاد الى سورية طالبا ان تنصره. وبين المرحلتين اعلن انه ولد من جديد، فأصبح نائبا ووزيرا وسقطت عنه الملاحقة وتهمة الميليشيا.

واصبح في امكان الوزير والنائب ان يسافر حتى الى لندن التي كانت قد وضعت ايلي حبيقة الذي ليس نائبا ولا وزيرا على لائحة الممنوعين. وكنت اراه في بهو «الكارلتون تاور»، طبعا عن بعد، وهو يتمشى في ثيابه الرياضية تاركا الدنيا لهمومها ومخاوفها. وقد سأله مذيع تلفزيوني يوما عن عمل ارهابي في اوروبا، قائلا له: «من تعتقد، بموجب خبرتك، انه الفاعل». وضحك ايلي حبيقة بدل ان يغضب.

ابقى، طول حياته القصيرة، قصة شعره كما هي. اي ميليشاوية. وعندما كان القائد الفعلي لـ«القوات اللبنانية» كان مقاتلوها يقلدون السالفين القصيرين والشعر الجز على طريقة المجندين العسكريين. وفيما دخل رفيقه وشريكه سمير جعجع السجن الطويل، دخل هو الحكومة. وكانت حقيبته الاولى وزارة المعاقين، وهو منصب حساس بعد حرب طويلة و200 الف قتيل وعدد كبير من مقطعي الاطراف. وبعد الوزارة طرح نفسه كمرشح لرئاسة الجمهورية. واخذ المسألة على محمل الجد. وكذلك اخذها اللبنانيون، لدرجة انهم شعروا بالخوف.

كان حبيقة يعرف انه مُخاف. وكان يعزز هذه الصورة، لدرجة أن بعضهم بدأ يشعر بالخوف. وكانت تلاحقه على الدوام، بصورة خاصة، تهمة الاشتراك في «صبرا وشاتيلا». وقد قتل قبل ان يستدعى كشاهد في محاكمة ارييل شارون في بلجيكا، ويواجه تعقيدات وافادات واقوال المدعين والمدعى عليهم. ويقال انه اجتمع قبل يومين فقط بوفد يمثل المحكمة البلجيكية. وبرغم كثرة خصومه وتعقيدات خصوماتهم، من الفلسطينيين الى الموارنة، الذين اتفقوا على عدائه، فان مقتله يثير هزة سياسية في لبنان. ذلك ان زمن الاغتيالات السياسية انتهى مع نهاية الحرب. ومنذ مقتل الرئيس رينه معوض ومجيء الرئيس الياس الهراوي لم تقع اي حادثة عنف سياسي. وقد اشتدت المعارضة في لبنان لكن احدا من السياسيين لم يتعرض الى عمل عنفي.

ومثل كل اغتيال سياسي من هذا الحجم، سوف تطرح الاسئلة عن الفاعل والاسباب. لكن بصرف النظر عن ذلك فان الحدث نفسه سوف يضّر بصورة لبنان الامنية عشية القمة العربية المقبلة، وقد يبقى الفاعل والدواعي والشركاء مجهولين لكن الدولة سوف تسعى الى حل اللغز بكل قواها، لان حبيقة حليف لها، بالاضافة الى كونه حليف دمشق. سوف تثار الاسئلة حول الاسباب والدوافع وخصوصا التوقيت، الذي هو اهم عناصر الجريمة. فمن يريد ان يقتل ايلي حبيقة اليوم، ولماذا. واذا كان في كل جريمة مستفيد فمن هو ذلك المستفيد؟ وهل الفاعل فرد مثل اولئك الذين كانوا يهددونه وينددون بفسخ الشراكة معهم ام هو اكثر؟ وكيف تسلل الفاعل الى شبكة الاحتياطات الهائلة التي كانت ترافق رئيس المخابرات السابق في «القوات»؟ وبسبب حجمه وسيرته وطبيعة حياته، يثير موت ايلي حبيقة من الاسئلة اكثر بكثير مما يجيب. فقد ظل هو ينفي حتى اللحظة الاخيرة اي دور رئيسي له في «صبرا وشاتيلا». والفلسطينيون اليوم مأخوذون بالمجازر الحالية في ارضهم. وبموته يجر ذلك الرجل الغامض خلفه صفا طويلا من الاسئلة اكثر مما طرح في حياته. الا ان الضوء الرئيسي في مثل هذه الظروف يأخذ الشك مباشرة الى المحكمة البلجيكية ودور حبيقة كشاهد رئيسي.