اغتيال حبيقة: فتّش عن صاحب المصلحة

TT

الموت حق، ولا شماتة فيه.

حتى في دنيا السياسة، بعداواتها وتحالفاتها الاستراتيجية والتكتيكية، يتحرّج اصحاب المصلحة بالاغتيالات السياسية والموحون بها ومخططوها ومنفذوها من ركوب مركبها علانية. وهكذا فهي تظل «اغتيالات»... لا «جرائم قتل» لأن الفاعل يبقى مجهولاً، او قل شبه مجهول.

ثم ان «موضة» الاغتيالات «بطلت» في معظم دول العالم، بما فيها تلك الدول المتقدمة التي لديها وكالات وهيئات تخصّصت طويلاً بالتخريب، والتدريب على التخريب والنسف والاغتيال والابتزاز، واعداد الانقلابات وتمويلها.

وأذكر تماماً، انه عندما كشف النقاب في يوم من الأيام عن اعتماد حكومة مارغريت ثاتشر في بريطانيا خلال الثمانينات سياسة ما يسمى بـ«الاصطياد» Shoot to Kill ضد من يشتبه في أنهم من ناشطي التنظيمات الجمهورية المسلحة في ايرلندا الشمالية، ثارت ضجة فظيعة. واستنكر هذا الاسلوب حتى بعض غلاة الساسة المحافظين، على اعتبار أنه لا يجوز لمجتمع متحضر يؤمن بقيم دولة القانون والنظام الانحدار بممارساته الى مستوى الزمر «الإرهابية» والشراذم الفوضوية.

فقط دولة واحدة في العالم اليوم تعترف على الملأ بأنها تمارس الاغتيال السياسي ...هي إسرائيل. وهي الدولة الوحيدة التي تبرّر اغتيال الأفراد المدنيين بمزاعم الدفاع عن النفس و«قطع الطريق على إقدامهم على شن هجمات فدائية»...!!! بالأمس، اغتيل في لبنان النائب والوزير السابق ايلي حبيقة في سيارة مفخخة مع ثلاثة من مرافقيه. وطبعاً كان من البديهي التساؤل عن الجهة الضالعة بهذا الاغتيال.

حتماً الاجابة على هذا التساؤل صعبة جداً من الناحية القانونية. ذلك انه يستحيل فعلياً كشف هوية مرتكبي جرائم من هذا النوع ما لم يصدر عنه إعلان موثق حول المسؤولية عن التنفيذ. ولا شك في ان من خطط لتنفيذ جريمة قتل بالدقة والنجاعة اللتين احاطتا بتصفية حبيقة ليس في وارد الاعلان عن هويته. على الأقل ليس الآن وهذا، مع ان اطرافاً عدة في لبنان اكتسبت «خبرة» مستفادة تحسد عليها على امتداد اكثر من ربع قرن من التخصص في ابشع المجازر وافظع التصفيات الدموية.

وهكذا يجب ان يتركز التساؤل على الجهة ذات المصلحة في غياب حبيقة بل تغييبه. وتوقيت الغياب او التغييب الآن... بالذات.

فحبيقة، كما يعرف القاصي والداني، تقلّب سياسياً على امتداد سنوات الحرب الاهلية اللبنانية بين مواقع متناقضة. إذ تنقّل من قلب الجهاز الأمني في حزب الكتائب اللبنانية، صاحب القوة الميليشياوية الرئيسية للمعسكر المسيحي إبان الحرب اللبنانية، الى مواقع المساومة التوافقية مع قادة الميليشيات الاقوى حضوراً في المعسكر المسلم. وما لم تخنّي الذاكرة، كان حبيقة مسؤول الاستخبارات والامن الاول في «القوات» والميليشيا الكتائبية عندما غزا أرييل شارون ـ وزير الدفاع الاسرائيلي يومذاك ـ لبنان بهدف تصفية المقاومة الفلسطينية عام 1982. وقد اتُهم حبيقة لاحقاً بأنه قاد شخصياً عناصر الميليشيا التي اقتحمت مخيمي صبرا وشاتيلا الفلسطينيين ببيروت تحت سمع القوات الاسرائيلية وبصرها وبمباركتها. وهناك ارتُكبت مجزرة فظيعة بعيد اغتيال بشير الجميل، الذي كان قد انتُخب رئيساً للجمهورية في ظل الاحتلال لكنه اغتيل قبل تسلم منصبه. غير ان رجل الأمن والاستخبارات الكتائبي الذي تدرّب في إسرائيل، ثم ورث موقع بشير الجميل بعد فترة قصيرة في قيادة «القوات»... انجز خلال منتصف عقد الثمانينات انقلاباً كاملاً على مواقعه السابقة. ووافق على ان يؤلف مع قائدي اقوى الميليشيات في المعسكر المسلم ـ نبيه بري زعيم حركة «امل» ووليد جنبلاط زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي ـ «مثلّثاً» وفاقياً... ترجم على الارض بما عُرف بـ«الاتفاق الثلاثي» برعاية سورية.

جاء هذا الانقلاب «الاتفاقي» يومذاك انتصاراً تكتيكياً مهماً لسورية، وسرعان ما أجهضته إسرائيل بدعمها انقلاباً على حبيقة داخل «القوات اللبنانية» قاده سمير جعجع. ومنذ ذلك الحين، وإثر معارك تصفيات دموية في الشارع المسيحي عشية ذلك الانقلاب، خرج حبيقة ـ او أخرج ـ عن «الدائرة الاسرائيلية» داخل لبنان. كما خرج وانصاره من عمق المنطقة المسيحية، ولكن من دون ان يكسب رضى او ترحيب حلفائه التكتيكيين الاضطراريين الجدد داخل المعسكر المسلم.

ومع ان حبيقة استفاد من استمرار الرهانات المسيحية الخاطئة في تلك الحقبة وإخفاق خصوم سورية في إضعاف نفوذها، فدخل البرلمان ثم عيّن وزيراً، فإنه عجز عن بناء اي رصيد له بين المسلمين.

وفي الانتخابات النيابية الاخيرة تأكدت هذه الحقيقة تماماً. إذ رفض الزعيم الاشتراكي الدرزي وليد جنبلاط التعاون معه انتخابياً مفضلاً التعاون مع خصومه الكتائبيين ضده. وأحجم «حزب الله» عن تبادل الأصوات معه رغم ان ترتيبات اللائحة قضت بتبادل الاصوات بين حزب حبيقة (الوعد) وحركة «امل» و«حزب الله» والحزب السوري القومي الاجتماعي والاقلية الدرزية من معارضي جنبلاط. وكانت النتيجة خسارة حبيقة مقعده النيابي، وتعرض لائحة حلفائه لهزيمة أليمة لم ينج منها تقريباً الا مرشح «حزب الله» ..الذي كانت اللائحة المنافسة قد اخلت له مقعداً شاغراً على اي حال.

إذاً على الصعيد السياسي، كان لحبيقة من الخصوم اكثر مما له من الحلفاء. وهذا ما جعله دائماً هدفاً للكراهية في عدة اوساط لبنانية ما زالت في ذاكرتها عداوات الحرب والامها. فالرجل، كان اكثر من مجرّد «رجل سياسة» او «قائد ميليشيا» عادياً. ولذا توقع كثيرون ان يرافقه حتى الممات ذلك العنف الذي طبع سيرته الذاتية، ايضاً بالاسرار والشكوك على امتداد السنوات الـ27 الماضية.

في المقابل عرف عن حبيقة أنه رجل امن ذكي وحذر. وكان بحكم خلفيته الاستخباراتية والامنية، يدرك انه دائماً عرضة للاغتيال. وبالتالي من المؤكد انه احاط نفسه بسياج امني محكم لا يستطيع اختراقه الا من هم اعلى كعباً منه في مضمار «الأمن الاستخباراتي». وهذا بالضبط ما حصل.

هنا ...يُحصر التساؤل بأمرين: الأول لماذا اغتيال حبيقة الآن؟ والثاني، من هو المستفيد من التغييب وتوقيت هذا التغييب الآن بالذات؟

إسرائيل ـ على لسان متحدث رسمي متكتم ـ بادرت بسرعة الى إلصاق تهمة الاغتيال بسورية. وهذا تصرف مفهوم لكنه مُستغرب الى حد ما، لجملة من الأسباب، اهمها ما يلي:

السبب الأول، انه ـ من الناحية النظرية على الأقل ـ لا يبدو لسورية مصلحة واضحة في الاغتيال، خاصة ان حبيقة لا يمثل لها حجر عثرة في علاقاتها مع المعسكر المسيحي اللبناني. فسورية الآن على تفاهم وود مع القيادة الكتائبية الجديدة التي يرأسها كريم بقرادوني.

السبب الثاني، ان حبيقة لم يعد منذ فترة لاعباً أساسياً مؤثراً في المعادلتين اللبنانية والمسيحية. وبالتالي لم يكن أي من الاطراف الداخلية اللبنانية او العربية متحمساً للتخلص منه.

السبب الثالث، ان اصرار حبيقة على «براءته» من مجزرة صبرا وشاتيلا، وإبداءه الاستعداد للادلاء بشهادته ضد شارون في شأن المجزرة، مبرّران اكثر من كافيين للسوريين لحمايته. السبب الرابع، ـ ايضاً من وجهة نظر منطقية ـ ليس من مصلحة سورية ولا من مصلحة حليفتها السلطة اللبنانية، هز الاستقرار الأمني في لبنان بجريمة من هذا النوع، بينما يدعو لبنان القادة العرب لحضور القمة العربية المقرّرة على ارضه.

في المقابل، هناك عدة اسباب تستبعد استبعاد التورط الاسرائيلي.

ففي ظل استمرار الاغتيالات العلنية التي تمارسها الحكومة الاسرائيلية في الاراضي المحتلة، وفي ظل المحاولات الاسرائيلية المستمرة لربط اي طرف عربي بتهمة «الإرهاب» بعد احداث 11 سبتمبر (ايلول)، وفي ظل تحمّس اللبنانيين والفلسطينيين من ضحايا صبرا وشاتيلا لبدء العد التنازلي لمحاكمة شارون في بلجيكا... ألا يصبح تغييب احد اخطر «الشهود» ورقة رابحة؟