«من سيدور عليه الدور؟» اللعبة الجديدة التي يقبل عليها الأميركيون

TT

يبدو أن هناك لعبة جديدة تلقى حماسا واسعا في الولايات المتحدة هذه الأيام رغم أنها غير متوفرة في الأسواق بعد. وهي تلعب في الاستقبالات الرسمية والندوات الاكاديمية وحفلات العشاء وحتى في المقاهي المختلفة، ولكن يظل التلفزيون هو الميدان الاهم للعبها. وقد دعي كاتب هذه السطور بينما كان في زيارة أخيرة لعدد من المدن الاميركية للمشاركة في هذه اللعبة في عدد من المحافل. وليس لهذه اللعبة من اسم رسمي بعد، ولكن يمكن للمرء أن يسميها بـ«من سيدور عليه الدور؟».

ويشير هذا السؤال الذي يشكل جوهر اللعبة الى الجدل المفتوح في الولايات المتحدة حول الدولة التي ينبغي ان تكون هدفا للحملة الدولية على الارهاب. ولما كان معظم الاميركيين يستخلصون أفكارهم من التلفزيون، فان الصورة التي تلعب بها تلك القنوات هذه اللعبة تكتسب أهمية خاصة. وهنا نجد ان قناة «سي.إن.إن» تفضل الصومال كـ«هدف مقبل»، ولهذا فانها عمدت الى ارسال احد مراسليها المشهورين الى مقديشو لانتاج مجموعة ريبورتاجات تعمل على الترويج لفكرة ان الصومال يستأهل تسديد ضربة عسكرية سريعة ضده. ولكن قناة «إم.إس.إن.بي.سي» تخالف منافستها «سي.إن.إن» في اعتبارها انه ينبغي ان تكون الحركة الاسلامية في الفلبين هي الهدف التالي للحرب على الارهاب. وبينما تعمل «سي.إن.إن» على بث التقارير والمعلومات عن الصومال، فان «إم.إس.إن.بي.سي» تقدم لمشاهديها تقارير عن ميندناو وأدغالها في الفلبين. في المقابل فان قناة «فوكس» التي تلقى قبولا رائجا لجهة اعداد مشاهديها مؤخرا تختلف مع القناتين السابقتين، فهي تصر على ان الهدف المقبل للحرب على الارهاب ينبغي ان يكون العراق، واجرت القناة مؤخرا سلسلة مقابلات مع خبراء أكدوا ان الاطاحة بصدام حسين أمر يسير للغاية. كما ان القنوات العادية، التي لا تبث من خلال الكابل، مختلفة في ما بينها كذلك، فبينما تفضل قناة «آي.بي.سي» ضرب ايران فان قناتي «سي.بي.إس» و«إن.بي.سي» تعتبران سورية والسودان المرشحتين الانسب لهذا الدور. كما أشار خبراء عديدين الى ان بامكان الولايات المتحدة «الاستيلاء على واحتلال» حقول النفط في الخليج بحجة منع وصول التمويلات للمنظمات الارهابية، وحتى أن بلدا مسكينا مثل اليمن يناله نصيب من الحديث عن ضربه في بعض البرامج الليلية المتأخرة.

الى جانب ذلك، فان الحديث مع مسؤولين من الادارة يعكس هذا التباين الشديد في الرأي على جميع مستويات صناعة القرار.

كما يلمس الامر نفسه في اليوميات والمجلات ومئات مراكز الابحاث. ولو أن الرئيس جورج بوش أنصت الى هذه الآراء المتباينة للزمه اعادة رسم خارطة أجزاء واسعة من العالم، أي من شرق افريقيا وحتى جنوب شرق آسيا، مرورا بالشرق الاوسط.

تنطلق لعبة «من سيدور عليه الدور؟» من افتراض قديم يرى ان التاريخ يعيد نفسه، ولهذا فان لاعبيها مقتنعون بأن رد فعل الهدف المقبل لن يختلف عن رد الملا عمر وعناصر القاعدة في افغانستان بالهرب مثل الفئران من وجه القوات الاميركية. ولكن يبدو ان هؤلاء غير منتبهين الى الملاحظة التي سجلها كارل ماركس من ان التاريخ لا يعيد نفسه الا على شكل مهزلة. كما عبر عن ذلك ماركسي آخر هو الكوميدي غروتشو الذي قال إن الرجل الذي ينال قبول الجدة ليس بالضرورة انه ينال قبول حفيدتها كذلك.

ويبدو ان صاحب القول الفصل في من سيكون عليه الدور يعتريه شيء من التردد في المشاركة في هذه اللعبة، إذ أصر الرئيس جورج بوش خلال الاشهر الثلاثة الماضية على نقطتين اساسيتين، اولاهما التأكيد على أن الكلمة الاخيرة في تحديد واشنطن لهدف الحملة على الارهاب المقبل تنحصر به شخصيا، وثانيتهما أن التحلي بالحكمة هو الجانب الاهم من الشجاعة.

وما من شك في ان مأساة 11 سبتمبر (أيلول) الماضي خلفت تأثيرا كبيرا على النظرة الاميركية للعالم وصبغتها بقدر من الشك والغضب العميقين، ولكن من المهم ان نتذكر أن أسباب انهيار نظام طالبان تتمثل في انه لم يكن يحظى بالشعبية لأنه مفروض من جانب باكستان وتسيطر عليه ثلة من المرتزقة الاجانب. ولو كان في افغانستان نظام وطني لما تمكنت الولايات المتحدة من كسب حربها بهذه السهولة المثيرة للدهشة. كما ان عموم الشعب الافغاني رحب بالتدخل الاميركي لمساعدته في التخلص من طالبان. علاوة على ذلك، كان بامكان الولايات المتحدة ان تقول إن حربها على افغانستان جاءت دفاعا عن النفس لأن طالبان رفضت اغلاق معسكرات القاعدة واعتقال قادتها.

لهذا ينبغي اعتبار التجرة الافغانية حالة فريدة واستثنائية، اذ لا تشاطرها أي من الدول التي أتينا على ذكرها في صدر هذا المقال ظروفها الخاصة. وبينما توجد أنظمة لا تحظى بالشعبية في العديد منها، بل تلقى معارضة محلية قوية في بعض الحالات، لا يمكن للولايات المتحدة اطاحة تلك الانظمة من خلال غارات جوية لا تستغرق سوى بضعة أسابيع. كما ان التدخل العسكري الاميركي قد يؤدي في بعض الحالات الى تقوية تلك الانظمة التي لا تحظى بالشعبية.

ولا يعني ذلك انه لا يمكن للولايات المتحدة، او حتى لا ينبغي لها، ان تحاول دعم بعض التغييرات في المنطقة الممتدة من شمال افريقيا وحتى شبه القارة الهندية الباكستانية التي تعاني من عدم الاستقرار. وربما كان مجرد التلويح باللجوء الى القوة في بعض الحالات مثمرا أكثر من استخدام تلك القوة بالفعل. اما في حالات اخرى فقد لا يتجاوز ما هو مطلوب غير اقدام الانظمة المعنية على تغيير تعاملها مع بعض القضايا الجوهرية. ويمكن العمل على إحداث تلك التغيرات المطلوبة من دون حاجة الى التدخل العسكري، شريطة ان يكون الرئيس بوش قادرا على تحديد سياسة خارجية متماسكة وتطبيقها بحزم.

ومن بين الدروس المهمة للتجربة الافغانية ان الولايات المتحدة تنجح في تحقيق ما تريد بالتدخل في شؤون بلد، اذا ما عثرت على حلفاء محليين فيه. ويمكن للولايات المتجدة بسهولة ان تجد لها حلفاء سياسيين في بعض الدول التي تمت الاشارة اليها في سياق لعبة «من سيدور عليه الدور» وتساعدهم في إحداث التغيير المطلوب من دون الحاجة الى شن حروب. اما في دول أخرى فان السلطة بيد حلفاء أميركا، وأي محاولة للإطاحة بهم قد تعني وقوعها في يد قوى مناهضة لاميركا. ان من بين المزايا التي تمتلكها القوى العظمى قدرتها على خوض لعبة طويلة بالصبر اللازم، ولهذا فان ضبط الولايات المتحدة ايقاع سياستها الخارجية وفق وتيرة النشرات الاخبارية والبرامج الحوارية للقنوات التلفزيونية المتنافسة يعد أمرا خطيرا. ويذهب معلقون في واشنطن الى ان ادارة بوش بحاجة الى فتح «قضية جديدة» بعد أفغانستان حتى لا تجازف بخسارة التأييد العام قبل انتخابات نصف المدة التي تنظم اواخر العام الجاري. وتنطلق هذه النظرة من الافتراض القائم على ان وسائل الاعلام، التي هي أشبه ما تكون بالوحش الذي يعيش على كميات هائلة من «القضايا الجديدة»، لا بد لها من غذاء يومي، ان لم يكن على مدار الساعة. وربما كانت الادارة بحاجة الى تبني شعار وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذي يقول «لا تقل لهم الا القليل ولكن صغه كل مرة بصيغة جديدة».

تعود الانتصارات العسكرية التي حققتها الولايات المتحدة خلال العقدين الماضيين، من التدخل في غرانادا عام 1980 وحتى طرد العراق من الكويت، مرورا بالبوسنة وكوسوفو واخيرا أفغانستان، الى حقيقة بسيطة، وهي ان الولايات المتحدة في كل تلك الحالات كانت تدفع بنصف الباب المفتوح على مصراعيه بالتحرك بحسب مسار التيارات التاريخية، لا ضدها، والتمتع بتأييد النخب المحلية الاقوى.

علاوة على ذلك، فان كل الانتصارات الاميركية التي انجزت خلال العقدين الماضيين لم تحقق من خلال القوة، بل ان أهم تلك الانتصارات، وبينها نهاية الحرب الباردة وتحرير أكثر من نصف أوروبا من قبضة الشيوعية، كانت جراء عقود من دبلوماسية طويلة النفس وتحركات سياسية وتنافس ثقافي. ويصح الامر نفسه على التغيرات الجارية في الصين وكوبا وحتى في كوريا الشمالية، اذ باتت هذه الدول الثلاث تتحرك باتجاه النظرة الاميركية للعالم، ولو بوتيرة مختلفة، وهي غير مدفوعة تجاه ذلك بالقوة العسكرية بل لأنها باتت تخسر الحرب السياسية والثقافية والاقتصادية.

فمن سيدور عليه الدور اذاً؟ لو شاركنا في هذه اللعبة فانني اود القول إن هدف الحملة المقبلة ضد الارهاب ينبغي ان يكون العالم الغربي، وتحديدا دول الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة وكندا. ولا أعني بذلك ان على الولايات المتحدة ان تقصف نفسها وحلفاءها، بل ان ما اقصده هو ان أمام الولايات المتحدة وحلفائها وقت طويل قبل ان تتمكن من اجتثاث قواعد الدعم اللوجستية التي شكلتها فوق اراضيها الجماعات الارهابية خلال العقدين الماضيين.