هس.. اسمع.. قد تعتبر!

TT

هناك أغنية قديمة مشهورة من التراث الشعبي اليمني يقول احد مقاطعها «.. لأقعدن على الطريق واشتكي، وأقول مظلوماً وأنت ظلمتني..». هذا المقطع يُجسد بالفعل حالة الشعوب العربية، فهي قد وصلت من الضعف والهوان الى درجة انها لم تعد تجيد سوى لغة الولولة والنواح، على الظلم الذي يقع عليها من ذوي القربى. يخيل اليّ في بعض الاحيان انها من انكبابها على الاطعمة الدسمة، وولعها بالحلويات المختلفة المذاق، قد اصابتها حالة من البلادة، حتى شبابها من الفتيان والصبايا اصبحوا مصابين بالذبحات الصدرية رغم صغر سنهم، وصار جل همهم الجلوس على قارعة الطريق، واستجداء الغادي والرائح لفك همومهم، من دون ان يكلفوا انفسهم تحريك الامواج الراكدة من حولهم بأقدامهم، أو ايقاظ الضمائر الغافلة التي استحلت الرقاد، بسواعدهم!! منذ أيام سمح شارون لليهود، بالصلاة في ساحة الاقصى، والاستمرار في مسلسل الابادة الجماعية للفلسطينيين من قتل وتدمير منازلهم وتشريدهم، وسط تجاهل عربي خطير، واعلام مراهق ما زال يصر على تطبيق نظرية التنفيس عن المكبوت بعرض الامزجة العربية، وتصوير انفعالات مسؤوليه ومثقفيه، من دون القيام بمحاولات صادقة لوضع حلول جذرية لمجمل قضاياه، وآخرها ما يجري للأسرى الافغان المحتجزين في كوبا من قسوة المعاملة، والذين وصل عددهم الى 158 أسيراً، مما دفع بمنظمات حقوق الانسان وبعض الدول الأوروبية، الى المطالبة بمعاملتهم كأسرى حرب حسب القانون الدولي.

لو كان الذي يحدث اليوم، جرى في العقود الماضية، لرأيت الشعوب العربية تخرج غاضبة الى الشوارع مطالبة بوقف هذا السيل العارم من الظلم الواقع عليها!! لم تعد الشعوب العربية تلقي بالا لما يحدث من مآس على أرضها، كأنها ملت من العيش في أجواء الكآبة!! أو فقدت الثقة في قياداتها، أو لشعورها باليأس يجثم على فؤادها!! وانصرفت للترويح عن نفسها، ووضعت أذناً من طين وأذناً من عجين، وتركت الحبل على الغارب، وألهت نفسها في تتبع أخبار الفنانين، مَنْ حصل على المركز الأول، ومَن تشاجر مع من، وأي من الفنانين أجره أعلى من الآخر؟! وانخرط الجميع في دائرة تشجيع فريقه في كرة القدم كنوع من التعبير عن الانتماء الوطني، حتى لو أدى الأمر الى التشاجر بالأيدي داخل مدرجات الملاعب!! سلّمت الشعوب العربية نفسها للغرب، أصبح أباها بالتبني، يحرك مصائرها، ويدافع عن قضاياها من منطلق منظوره الشخصي، ويفتح ملفات الدفاع التي يراها صالحة من خلال وجهة نظره!! لقد حمل الغرب على أكتافه كل مصائبنا، وكان لا بد من دفع الثمن!! لقد أصبح يعبث بحاجياتنا، ويستخف بقدراتنا، ويلوح بالعصي في وجه كل ولد عاق يحاول اظهار شيء من التمرد!! من يصدق ان الأمة العربية من الخليج الى المحيط تقف مكتوفة اليدين عما يجري على أرضها من محن؟! من يصدق ان هذه الشعوب، هي التي قاومت الاستعمار حتى أخرجته من بلادها؟! من يصدق ان هذه هي نفس الشعوب، التي خرجت ترقص في الطرقات، احتفالا بطرد المستعمر من ارضها؟! لماذا لم تعد الشعوب العربية تعبأ بهذا التاريخ المضيء؟! هل لأن الاستعمار أثبت مع تعاقب السنين، انه كان أكثر رحمة بالشعوب التي استعمرها من ابنائها؟! لقد تبخرت الفرحة في الأعماق مع شنق الحريات في الميادين العامة، وخبا الحماس مع استمرارية مسلسل نهب الثروات الى أجل غير مسمى!! سخرت من محاولة بعض الجنرالات السابقين الذين اشتركوا في حرب الجزائر، الدفاع عن سمعة الجيش الفرنسي ابان حرب تحرير الجزائر، بأن أساليب التعذيب كانت مقتصرة وقتها على حالات محددة. لا أدري لماذا بذل الجنرالات كل هذا الجهد لتحوير الحقائق؟! لم تعد شعوبنا العربية تلتفت لتفاصيل ماضيها، لقد اثبتت الايام ان فنون التعذيب والقمع التي تمارسها بعض السلطات العربية في حق شعوبها، تفوق في قسوتها ما كان يقوم به المستعمر على أرضها!! كما ان بتر الجسور بين السلطة وشعبها، واخماد الأصوات المعارضة، أدى الى قتل الحس الوطني في النفوس، وبالتالي اضطرهم الى تقبل الامر الواقع، والجلوس في غرف مغلقة والتحليق في فضاء اللاوعي.

وسط هذه السحب القاتمة يبزغ نجم عمرو موسى الامين العام لجامعة الدول العربية، الذي لم يتحرج من القول على الملأ.. انه يرفض ان يكون مجرد ظل!! الجميع يتمنى مع قرب انعقاد القمة العربية، ان تحدث معجزة رغم انتهاء عصر المعجزات، وان تخرج القمة بقرارات موحدة حازمة في ما يخص القضية الفلسطينية، ووجوب التفريق بين الارهاب واحقية الشعوب في النضال من اجل استرداد أوطانها. هناك الكثير من القضايا المخجلة التي لا بد من مواجهتها حتى يثبت القادة العرب لشعوبهم قبل العالم بأسره، أنهم قادرون على تجاوز خلافاتهم، وانفعالاتهم الشخصية. لكن المشكلة ان التربيت على الكتوف، وتقبيل الخدود، وفتح الاذرع عن آخرها لضم الصدور، ما زالت عادات عربية مستحكمة!! الخوف ان يستمر مسلسل التخدير، وتخرج القمة كعادتها بتحرير قرارات مكتوبة بمخدر محلي رخيص، حتى تخمد انفاس شعوبها الى الأبد، مع ان الحقيقة الساطعة تؤكد ان الشعوب لم تعد بحاجة لكل هذا الكم من الحقن المسمومة، فقد توقف نبضها منذ أمد بعيد، وسرادق العزاء ما زال منصوباً، والبقاء لله وحده!!