الشيخ محمد بن جبير بين السلفية والمعاصرة

TT

تُوفي الى رحمة الله تعالى يوم الخميس الماضي في الرياض محمد بن ابراهيم بن عثمان بن جبير رئيس مجلس الشورى السعودي عن عمر يناهز اربعة وسبعين عاما. فقد احزن رحيله كل معارفه لما يتمتع به الشيخ الراحل من دماثة خلق وحسن معشر وطيب حديث. يعد الشيخ بن جبير من ابرز علماء المملكة العربية السعودية، فهو الى جانب رئاسته لمجلس الشورى منذ تأسيسه عام 1412 (1991)، عضو في هيئة كبار العلماء. كان الشيخ الراحل عالما حرص على المزاوجة بين السلفية والمعاصرة. فكان رحمه الله تعالى حريص على اتباع السلف الصالح، وفهم الواقع بأحداثه المتسارعة ومستجداته المعاصرة في حكمه على المسائل وفتواه في النوازل. وكان من العلماء الذين ينزلون امر هذا الدين على واقع العباد تيسيرا وتبشيرا متأسيا بقوله صلى الله عليه وسلم «يسروا ولا تعسروا بشروا ولا تنفروا». لم يقتصر تعليمه على نظام التعليم المؤسسي، بل حرص مع ابناء جيله على تلقي العلم على يد بعض المشايخ درسا وفهما، ومن هؤلاء المشايخ الذين تتلمذ على يدهم الشيخ الراحل، كل من الشيخ عبد الله العنقري والشيخ محمد الخيال والشيخ عبد العزيز بن صالح والشيخ عبد الله بن حميد والشيخ سعود بن رشود وآخرين.

كان الشيخ بن جبير يرحمه الله تعالى رقيقا في تعامله ومتواضعا في تصرفه وبشوشا عند لقياه وحليما على مخالفي رأيه، مقتفيا في ذلك اثر السلف الصالح ونهجهم. فكان يرى قوله صحيحاً يحتمل الخطأ وقول غيره خطأ يحتمل الصواب، لم يكن يعنف عند مراجعته في رأي ولا يعتسف عند مخالفته في قول. كان يؤمن بالتدرج في الامور كلها، وكان يرى ان الزمن كفيل بمعالجة متغيرات البيئة ومسايرة تطورات المجتمع. وكان يرحمه الله تعالى احرص ما يكون على ان تُقضى على يده للناس حاجات، وهو في ذلك يتمثل قول الامام ابي عبد الله محمد بن ادريس الشافعي: وأفضل الناس ما بين الورى رجل تقضى على يده للناس حاجات.

شارك الشيخ الراحل في العديد من المؤتمرات والندوات التي عقدت في الرياض وباريس والفاتيكان ومجلس الكنائس في جنيف والمجلس الاوروبي في ستراسبورغ حول الشريعة الاسلامية وحقوق الانسان. وكانت آخر مشاركة له في مؤتمر قبل وفاته، حيث التقيته فيه، الدورة الخامسة عشرة لمجلس المجتمع الفقهي الاسلامي التابع لرابطة العالم الاسلامي في مكة المكرمة، حيث كانت هذه الدورة غنية بالموضوعات وثرية بالمناقشات. وكان اسبوع في رحاب بيت الله الحرام مليء بالدرس والبحث والمراجعة، وكان للشيخ الراحل اسهام عظيم في قراراته وتوصياته لما بذله من نصح طيب وآراء سديدة حول جملة القضايا التي طرحت صباح مساء في ذلكم الاسبوع. ولقد استوقفني حديثه عن التنسيق بين المجامع الفقهية الكبيرة في الموضوعات وموعد انعقاد الدورات. وخص بحديثه المجمعين الفقهيين الكبيرين، مجمع الفقه الاسلامي الدولي في جدة والمجمع الفقهي الاسلامي في مكة المكرمة، باعتبارهما من المجامع الفقهية المهمة وكون مقرهما في بلد واحد، فدعا الى ضرورة التنسيق بينهما بحيث لا تتكرر الموضوعات ولا تعقد الدورات في فترات متقاربة، فوجد حديثه وقعا طيبا بين المؤتمرين.

ولقد حرص المشاركون في اجتماعات مجلس المجمع الفقهي الاسلامي من خارج السعودية، وانا من بينهم، للاطمئنان على صحة الشيخ بن جبير لما سمعنا عن مرضه، فطمأننا بان صحته بخير.. «وما كان لنفس ان تموت الاّ باذن الله كتابا مؤجلا».

نسأل الله تعالى ان يتقبل فقيدنا قبولا طيبا حسنا ويتغمده بواسع رحمته وعظيم مغفرته ويجعل الجنة مثواه مع الصديقين والشهداء ومن اولئك رفيقا ويلهم ذويه وتلاميذه ومعارفه الصبر الجميل «وبشر الصابرين الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون».