كتب وبطاطا

TT

الأسوأ من فضيحة احتجاز الكتب اللبنانية في ميناء دمياط، ومعاملتها كمواد مشبوهة، ومنعها من المشاركة في معرض القاهرة الدولي للكتاب، هي فضيحة لا مبالاة المسؤولين المصريين واللبنانيين، على حد سواء، حيال قضية معيبة ومؤذية وعميقة الدلالات في مضمونها.

فقد استبيحت المنشورات اللبنانية وبمعيتها السورية، وأُمعن في استباحتها طعناً وقذفاً وتشهيراً، من دون ان تثور حفيظة مسؤول بالمستوى الذي يضع حداً حاسماً للمهزلة، ويعيد الامور الى نصابها قبل ان يبلغ السيل الزبى، وهو مما ليس بمستغرب في مناخات الانحطاط المذلة والمهينة التي تجهز على كل ما هو نابض في هذه المنطقة الساعية حثيثاً الى البحث عن هلاكها.

ففي يونيو (حزيران) الماضي أسرت شحنة كتب لبنانية في ميناء الاسكندرية وبقيت حبيسة هناك مدة ستة اشهر قبل ان يطلق سراحها، ليتكرر السيناريو المخجل، ويحتجز 16 مستوعباً من الكتب بداية السنة الحالية وتحرم ما لا يقل عن 78 دار نشر لبنانية وسورية من المشاركة في معرض القاهرة للكتاب بذرائع مثيرة للسخرية والاستهجان. فبعد ان اطلقت التهم على الكتب المغلولة من كل اتجاه، ونعتت، جزافاً، بالتزوير، ودس الجنس، والاساءة الى جهات عربية، والتلاعب بالاسعار، جاءت الموافقة على تخلية سبيلها لقاء ضريبة جمركية باهظة، وكانت قد مرت على المعرض ايام عدة، ففضل الناشرون الانسحاب مكتفين بما تكبدوه من خسارة، الا انهم فوجئوا بمطالبتهم بضريبة اخرى لقاء تخزين الكتب في الميناء، فتركوا كتبهم هناك وعادوا ادراجهم.

هكذا رجم الكتاب، ونحر في عيده العربي الاكبر، ووسط أهله، وفي احتفاليته السنوية الموعودة التي يترقبها المثقفون العرب على امتداد هذا الوطن العليل والمتداعي لأنه ما يزال يرى في الكتاب ما هو ادنى من سلعة تستحق ان تطبّق عليها القوانين من دون مواربة او مخاتلة.

ولنفترض جدلاً ان داراً او اثنتين او حتى عشرة خرقت قانوناً ما، ومن اي نوع كان، فما مبرر رفع مقصلة جماعية طالت رقاب مئات آلاف الكتب وعشرات الدور وبلدين اثنين بعينهما؟ ولماذا كل هذا الرعب والارتجاف امام الكتب ومعاملتها كقنابل موقوتة تغلق دونها المعابر الحدودية وتشتم وتلعن وتفرض عليها الضرائب التعسفية، ثم تطرد من دون احساس بالذنب حيالها. وبعد ان تكون الواقعة قد وقعت تتصاعد اصوات خافتة خجولة، من هنا وهناك، تعترف بأن ما حدث كان خطأ بيروقراطياً ادارياً ولم يتم تداركه في حينه.

ما جرى في القاهرة هو سابقة تجاوزت بأشواط حدود المصادرة التقليدية، المرفوضة اصلاً، والتي دجّنت الناشرين وروضتهم، على مدى عقود متوالية وقصّت اجنحة الكتَّاب وكسرت شوكة اقلامهم. فما شهدته «ام الدنيا» يجعل اللقب واسعاً فضفاضاً، لأنه يعبّر عن ضيق بالآخر، وصعوبة في احتمال ثقل الدور الريادي والراعي والحاني الذي انيط بها، والآمال التي علقت عليها كمركز قادر على اخراج الكتاب، تجارياً على الاقل، من حيزه الجغرافي العربي صوب افق اوسع وأرحب.

فحين يُحجر على المعرفة في ميناء من اجل حفنة من الدولارات فعلى المعرفة السلام، وحين يجلس الناشرون في اجنحتهم الفارغة في المعرض - التي دفعوا ايجاراتها مقدماً - في انتظار كتبهم التي سوِّدت صفحاتها ولوثت سمعتها قبل وصولها، فالأجدر بهم الانسحاب. وحين يضع اديب عصارة جهده في كتاب يعرف ان مصيره ظلمات المستودعات لا بد سيشعر ان انوار عقله قد أُطفأت.

وفي هذا السياق الذي تسوقه الفوضى وتتحكم فيه قوى خفية لا تدرك ماهيتها ولا غاياتها تبحث عن دور ايجابي ولو هزيل لاتحاد الكتاب المصريين فتصاب بالاحباط تجاه اتحاد الناشرين العرب العاجز عن الدفاع حتى عن اعضائه، فلا تعثر سوى على هيئات «ديمقراطية» تكتفي بما قسم لها، فلا تعتزل احتجاجاً، ولا تعترض انقاذاً لماء الوجه.

وبالعودة الى الكتاب اللبناني تحديداً، فإن محاصرته تعني، فعلياً نسف القليل الباقي من جسور ثقافية عربية في زمن العزلة. فدور النشر اللبنانية تستقطب اقلاماً من مختلف الاقطار، وفي كتبها تسكن نتاجات من المغرب وصولاً الى الخليج العربي مروراً بالجزائر وتونس وليبيا ومصر، وان تمنع هذا الكتاب الجسر/ معناه ان تسدَّ الباب وتستريح من مشاغبين متعددي الجنسيات والاهواء. رغم ان الرؤيا توضحت للجميع، وتبّين ان الخطط والمؤمرات التي تنسج في السر وتحت الارض لم تكن وليدة قراءات انفتاحية تنوعية، بل هي وليدة التقوقع على الكيان المحلي الذي يرسخ الافكار الاحادية.

وقبل ان نتشدّق بالروابط العربية لا بدّ ان نعي بأن عصبها الفكر الذي يصادر في الموانئ والمطارات حتى بات واحدنا يتشوق الى كتاب البلد الآخر فلا تلمسه انامله الا بعد سعي وكدٍ ومعونة صديق مسافر او قريب مهاجر لأن الكتاب الوافد، ينظر اليه كأنه جاسوس متلصص او شقي قادم لارتكاب اعمال ارهابية، يستحق اعلان الحرب ضده درءاً لأذى محتمل، رغم ان الكتاب لا يحلم ـ في قرارة نفسه ـ سوى بتحسين نسل الوضع العربي.

وسط هذه الاجواء التخبطية والاخطبوطية، يرتفع صوت ناشر عربي واقعي، حاد كسكين، يطالب برفع الضيم عن الكتاب ومساواته بالبطاطا، وليس في الامر من نكتة، بل هي دعوة جادة تستحق ان تسمع. اذ ان الاتفاقية التجارية بين لبنان ومصر افلحت في فتح الاسواق امام المنتوجات الزراعية واغرقت البطاطا المصرية لبنان حتى التخمة، بينما عجزت هذه الاتفاقية نفسها التي تشمل الكتاب، تماماً كما البطاطا، عن ان تنصفه، لأنه منتوج من صنف شيطاني، على ما يبدو. لذلك تجدنا مضطرين، وقلوبنا تتفطر حزناً وأسفاً، ان نقف الى جانب هذا الناشر الغاضب وان نضم صوتنا الى صوته المحق ونقول: «نرجوكم، لا تدعوا نصيب البطاطا في العالم العربي افضل من حظ الكتاب».

sawsan - [email protected]