كريهة الفوكلاند

TT

لم يحسن العرب في تسمية شيء كما احسنوا في تسمية الحرب بالكريهة. وفي هذه الأيام، لمست مصداقا جديدا لهذه التسمية في السلسلة التلفزيونية البريطانية التي قدمت بمناسبة مرور عشرين عاما على حرب الفوكلاند.

المعتاد في مثل هذه الافلام والبرامج، ولا سيما اذا كانت اميركية، ان تتبجح بالانتصارات والبطولات والعنتريات الوطنية والقومية. بيد ان هذه السلسلة البريطانية ركزت انظارها كليا على الجانب المأساوي من الحرب. انها موضة الموسم. لا أحد في الغرب يتغنى في هذه الأيام بالانتصارات الحربية. حتى القائد البريطاني المنتصر لم يقل كلمة واحدة عن انتصاره. كل ما قاله كان عن الخسائر في الارواح التي ذهبت بدون سبب والرجال الذين اضاعوا شبابهم. فحرب الفوكلاند كانت زبدة لحماقات الحروب والعنف، مات في سبيلها ما يزيد على الألف شاب من الجانبين من اجل الفي مستوطن على مجموعة جزر نائية قفراء.

بهذه الروح المعادية للعنجهية العسكرية والانتصارات الدامية التي يسمونها انتصارات مجيدة، دخل العساكر الانكليز مدينة ستانلي، العاصمة، لا ببهجة المنتصر وعربدته، اغانيه وهتافاته، وانما بمشاعر الاسف والشعور بالذنب والعقم.

بيد أن من أروع حلقات هذه السلسلة التلفزيونية الوثائقية كانت الحلقة التي تعلقت بالاستيلاء على ميناء غوز غرين على خليج سان كارلوس. خططت القيادة البريطانية لنقل فوج من قواتها بالطائرات العمودية الى مشارف الميناء لمهاجمته والاستيلاء عليه. ولكن الارجنتينيين اغرقوا هذه الطائرات في البحر، واقتضى على الفوج ان يقطع المسافة سيرا على الاقدام عبر جبال وعرة ومقاومة عنيفة. وعندما وصلوا الى ميدان المعركة وجدوا انهم قد فقدوا نحو نصف عددهم بين جرحى وقتلى واستنفدوا معظم ذخيرتهم وخسروا قائدهم في اول مناوشة. تسلم القيادة نائبه الرائد وايلي. نظر هذا فوجد العدو محصنا في خنادق عديدة. أصبح عليه ان يقود جنوده المتعبين في هجوم بالسلاح الابيض، حضر ضباطه ليتلقوا أوامره، احتار في ما يأمرهم به في موت زؤام. لكنه كان مسيحيا مؤمنا. فتركهم واختلى بنفسه وراء اكمة. ركع على ركبتيه وتوجه الى الله. رباه نحن في يدك فلتكن ارادتك في الأرض كما في السماء خذني بمشيئتك.

جلس لبضع دقائق فجاءه هذا الايحاء. اخذ ورقة وكتب رسالة للقائد الارجنتيني قائلا: نحن مكلفون بالاستيلاء على غوز غرين وسنهجم عليكم بكل ما اوتينا من قوة. سيموت الكثيرون منا ومنكم. لماذا نضحي بكل هذه الارواح؟ ضعوا سلاحكم واستسلموا ونصون بذلك هذه الارواح.

كانت محاولة روحية يائسة. ولكن القائد الشاب فوجئ بجواب القبول من القائد الارجنتيني الذي حمل الراية البيضاء وتقدم نحو الخطوط البريطانية وسلم مسدسه للرائد وايلي. تلاه بقية العساكر الذين استقبلهم الانكليز بكل احترام واجلال.

انها حكاية تذكرني بقصة ابو دلامة الذي بعثوا به لمقاتلة العدو فتقدم وفتح زاده وجلس معه يتقاسمان الغداء وينصرف كل منهما الى أهله! هذه هي البطولات التي اعتز بها، بطولات الضمير ومحبة الانسان واحترام الحياة.