صَمَتَ شاهد واحد فهل يتكلم شهود الصمت الآخرون؟

TT

قلت في حديث الثلاثاء الماضي ان «اغتيال حبيقة رسالة من شارون الى سورية». وها هو الاستاذ كريم بقرادوني يستكمل العنوان بعنوان حديثه الأسبوعي في هذه الجريدة بالقول ان «اغتيال حبيقة رسالة اسرائيلية الى المسيحيين المتحالفين مع سورية»، وخص بالذكر حزب الكتائب وتنظيم «القوات اللبنانية».

وأنا أوافق الرئيس الجديد لحزب الكتائب على هذا الاستنتاج ايضا، لكن اود ان اذكِّر بالقول ان اسرائيل لم تلاحق أو تمس بالأذى أيا من الزعماء الكتائبيين والقواتيين الذين بدأوا منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي بإنهاء علاقتهم معها، والاقتراب من سورية، وفي مقدمتهم حبيقة وبقرادوني.

الواقع ان الخطر الاسرائيلي على حياة هؤلاء الساسة والزعماء، انبثق فجأة مع تجدد اتهام شارون بالمسؤولية عن مجازر الفلسطينيين المدنيين وفقراء الشيعة اللبنانيين في مخيمي صبرا وشاتيلا. فملاحقة شارون أمام قضاء مستقل كالقضاء البلجيكي تهدد بإنهاء حياته السياسية وادانته كإرهابي ومجرم حرب. وقد تتكفل أية معلومات موثوقة تقدم الى المحكمة بانهيار حكومته في وقت اسرائيلي عصيب، وتنهار معها مصداقيته كشاهد على «ارهابية» عرفات والفلسطينيين.

لقد ضمن شارون والمؤسسة الاسرائيلية الحاكمة صمت الشهود الاسرائيليين عن مسؤوليته المباشرة عن المجزرة، مكتفيا بإدانة واهية له عن «مسؤولية غير مباشرة» حملها اياه، وعلى خجل واستحياء، تقرير لجنة التحقيق الاسرائيلية برئاسة يتسحاق كاهان الرئيس الأسبق للمحكمة العليا. و«لتهريب» شارون من المسؤولية اتهمت اللجنة حبيقة كمسؤول مباشر.

لكن رهان شارون الأكبر كان على سكوت هؤلاء الزعماء والقادة اللبنانيين طوال السنوات العشرين الماضية عن دوره ومسؤوليته في المجزرة. لقد قتل حبيقة لأنه اعتزم الكلام وفضح شارون، وربما فضح أكثر من مسؤول من زملائه العسكريين المليشياويين.

غير ان هذا السكوت هو الذي يهدد اليوم حياة هؤلاء. فخوف شارون والمؤسسة المخابراتية العسكرية الاسرائيلية من كشفهم لأسرار وملابسات المجزرة سيجعلهم طوال صمتهم عنه في مرمى الابتزاز والتهديد الدائم بالتصفية، حتى بعد مغادرة شارون المسرح السياسي.

وهكذا، فالصمت والكلام يتساويان في تشكيل الخطر على شهود الصمت اللبنانيين. لكن في الكلام ما قد يخفف من الخطر عليهم، لأنهم عندئذ يتكفلون بكلامهم بإنهاء حياة شارون السياسية، وتقويض حماسته الزائفة للتحالف مع الرئيس بوش كمناضل صنديد ضد الارهاب.

ولن تجرؤ الاجهزة الامنية الاسرائيلية على معاقبتهم عندما تنفجر الفضيحة امام العالم كله. وهم بذلك يقدمون البرهان والدليل القاطع على انحيازهم لعروبة لبنان، ومشاركة العرب في دفع خطر شارون على السلام وعلى الفلسطينيين ارضا ودولة ومستقبلا.

ولعلي أساهم في تقديم خدمة متواضعة وخجولة لهؤلاء الزعماء عندما أحدد نقطة البداية في مشروع ادانة شارون، كيلا تضيع المسؤوليات في جدل عقيم، فأقول ان مسؤولية شارون تبدأ في لقاء عاطفي مؤثر جرى في بيت الشيخ بيار الجميل في بكفيا يوم 15 سبتمبر 1982 على وجه التحديد، عندما ذهب وزير الدفاع الاسرائيلي وأركان قيادته العسكرية لتقديم العزاء في مصرع نجله بشير في اليوم السابق. وكان بشير قد انتخب رئيسا للجمهورية في ظل الحراب الاسرائيلية.

شارون يعترف صراحة بحدوث هذا اللقاء، لكنه ينفي الاتهام الموجه اليه بأنه حرض آل الجميل والزعماء القواتيين والكتائبيين آنذاك على الانتقام للرئيس القتيل.

المعلومات الضئيلة، لكنها الموثوقة، المتوفرة لدي عن هذا اللقاء تشير الى أن من بين حاضريه الاسرائيليين كان الجنرال أمير دروري قائد المنطقة الشمالية خلال الغزو الاسرائيلي، والجنرال يهوشوا ساغي مدير المخابرات العسكرية الاسرائيلية آنذاك، ونائب مدير الموساد، وكوكبة من الضباط والمخابراتيين، وربما ايضا الجنرال رفائيل إيتان رئيس الأركان.

الباقون على قيد الحياة من هؤلاء الاسرائيليين الكبار ممنوعون من الكلام بموجب «قوانين الصمت» الأمنية الاسرائيلية. لكن لا أدري من كان حاضرا من الزعماء اللبنانيين سوى الشيخ بيار ونجله الشيخ أمين الذي سيصبح رئيسا للجمهورية بعد اغتيال شقيقه.

لقد ذهب الوالد الشيخ بيار الى لقاء ربه في عام 1984. فهل يتكلم الشيخ أمين؟ هل يتكلم الشاهد الرئيسي الصامت وربما الوحيد؟ هل يقول ما اذا كان قرار سياسي قد اتخذ خلال اللقاء باجتياح المخيمات؟ هل حرض شارون زعيم الكتائب على الانتقام؟ هل قال الأب لشارون ولمعزيه انه «سيتم الانتقام» لنجله الصريع، حسب رواية مسؤول اسرائيلي اطلع على المحضر السري للقاء؟

هل أبلغ شارون حقا آل الجميل انه أصدر قرارا بالسماح «للقوات اللبنانية» باجتياح المخيمات، وللقوات الاسرائيلية باجتياح بيروت الغربية؟

لقد تم اجتياح «القوات اللبنانية» للمخيمات بعد 24 ساعة من هذا اللقاء واستمر 48 ساعة، وقتل فيه من الفلسطينيين واللبنانيين عدد يتراوح بين خمسة آلاف شخص حسب التقديرات الفلسطينية المبالغة، وثلاثة آلاف حسب التقديرات الغربية، وألف حسب تقدير الصليب الاحمر، وبضع مئات حسب تقدير المخابرات الاسرائيلية ولجنة كاهان.

شارون شديد التناقض في مذكراته وتصريحاته عما دار في اللقاء، ويذهب الى حد اتهام الجنرال ايتان بالمسؤولية عن قرار الاجتياح، لكن رئيس الأركان السابق يقول انه نبه شارون مرارا الى أن «نهرا من الدماء» سوف يجري اذا اجتاح المخيمات القواتيون الغاضبون على مقتل قائدهم.

أعرف ان الشيخ أمين الجميل لم يكن على وفاق تام مع شقيقه الأصغر القتيل، على كل ما تفعل مليشياه على الأرض وفي السياسة وفي حلفها مع الاسرائيليين. وأعرف انه كان رئيسا مترددا ومغلوبا على أمره خلال ولايته، الأمر الذي ربما حال دون استكمال مصالحته مع سورية ووقف الحرب بعد 11 لقاء مع الرئيس الراحل الأسد. وأعرف ان معارضته «المستأنسة» الحالية للنظام اللبناني الحالي وللحضور السوري في لبنان، لم تمنعه من الاعتراف الفاتر بعروبة لبنان، ومن بناء علاقات صداقة حميمة مع عدة عواصم عربية.

لكني أعرف ايضا انه يملك الجرأة، اذا أراد، على الكلام عما دار في ذلك اللقاء المشؤوم.

أعود للاستاذ بقرادوني، لأسأل عما اذا كان حاضرا هو ايضا لقاء بكفيا، لكن حضوره ليس بأهمية قدرته على تحديد المسؤول القواتي، الذي اتخذ القرار العسكري باجتياح المخيمات بعد تلقيه الضوء الأخضر من شارون، أو من قيادته السياسية.

وللأمانة مع التاريخ، أقول إن الراحل حبيقة كان الأسبق لاكتشاف سورية بين القواتيين والكتائبيين. واعتراف بقرادوني بسورية جاء بعد حبيقة بمراحل، لكن الاعتراف المتأخر لا يلغي جرأة بقرادوني المتناهية في «تعريب» مسيحيي لبناني. واظن ان هذه الجرأة تمكنه هو ايضا من مواجهة شارون بالحقائق والوقائع، على الرغم من ان دوره الكبير في اللعبة السياسية أداه على المستوى «التنظيري» اكثر مما أداه على المسرح الميداني والعسكري.

لا أدري ما اذا كانت «الشرق الأوسط» تفتح صدرها لأية شهادة قد يقدمها أمين الجميل أو الزعيم الحالي لحزب الكتائب وغيرهما من القادة الكتائبيين والقواتيين. واذا قرر الرئيس الجميل الكلام، فغيرتي عليه تسمح لي بإسداء النصح له، سلفاً، بأن نفي كل ما دار في اللقاء لا ينفع. واهمس في أذنه بأن محضر اللقاء مدون في 12 صفحة فولسكاب يستطيع الاسرائيليون، في أية لحظة، نبشها من ملحق سري من ملاحق تقرير كاهان، ومواجهته بها.