«لكم دينكم ولي دين»: والفرق بين التسامح والتشنج الحضاري

TT

ان من اهم نتائج انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي ظهور اطروحة صدام الحضارات. وعلى الرغم من الانتقادات العديدة التي وجهت لهذه الاطروحة إلا ان تخوف الكثيرين من احتمال حدوثها والاحساس بخطورتها وعواقب نتائجها دفع الكثيرين من المفكرين والاكاديميين والسياسيين وزعماء الحركات الانسانية الى تبني اطروحة حوار الحضارات. وفكرة الحوار ليست جديدة في المجتمع الدولي او السياسة الدولية فقبل انتشار فكرة حوار الحضارات عرف العالم انماطا اخرى من الحوار مثل حوار الشمال والجنوب والحوار العربي الاوروبي والحوار بين الاديان.

وتأتي اهمية فكرة الحوار مع الآخر أيا كان ذلك الآخر من حقيقتين مهمتين:

1 ـ ان طبيعة الحياة الانسانية تدفع الى التداخل والتفاعل مع الآخر، فالانسان اجتماعي بطبعه ولا يميل نحو الانعزال. واضافة الى ذلك فإن ظروف واعتبارات الحاجة والمصلحة تدفع الانسان عادة نحو مزيد من التداخل الى الصدام والصراع.

2 ـ ان المجتمعات الانسانية تختلف عن بعضها بعضا في قيمها وثقافاتها وعقائدها الدينية ومصالحها الاقتصادية والسياسية. وبينما تدفع الحقيقة الاولى نحو التعايش المشترك فإن عناصر او مضامين الحقيقة الثانية يمكن ان تقود الى الصدام والصراع.

ومن خلال هذه النظرة يمكن القول ان الحوار هو ضرورة املتها الحاجة للتوفيق بين الحقيقتين الانسانيتين اللتين تقودان نحو نتيجتين متناقضتين حيث تدفع الاولى نحو التداخل والتعايش وتقود الثانية نحو الصدام والصراع. فهناك ضرورة مصلحية وطبيعة انسانية تدفع بالمجتمعات البشرية نحو التداخل والتفاعل. وبما ان هذه المجتمعات هي في الاصل مجتمعات مختلفة وليست منسجمة في القيم وانماط السلوك، فقد برزت اهمية وضرورة الحوار الانساني حتى لا تؤدي الاختلافات القائمة والمتنافرة احيانا الى وقوع الصدام بين الدول والمجتمعات.

وعلى الرغم من ان حوار الحضارات الحالي يرتبط مع الحوارات السابقة من حيث مبدأ الاهتمام بالتحاور مع الاخر إلا ان حوار الحضارات يتضمن ابعادا خاصة تجعله يتميز عن جميع الحوارات الاخرى بشكل كبير، فالهدف الاساسي من الحوار السابق بين الشمال والجنوب هو البحث عن اسس ووسائل الدعم الاقتصادي والتقني الذي يمكن للدول المتقدمة في الشمال ان تقدمه للدول النامية في الجنوب. واما الحوار العربي الاوروبي فلقد تركز على مناقشة سبل تدعيم العلاقات الاقتصادية بين اوروبا والعالم العربي ومعالجة المشاكل التي تعترضها، وفي مقدمتها موضوعات ومشاكل العمالة المهاجرة ونقل التقنية والطاقة والتبادل التجاري وتسهيل استيراد منتجات البتروكيماويات القادمة من منطقة الخليج، ففي كلا المثالين السابقين نجد ان اعتبارات تطوير العلاقات الاقتصادية والسياسية كانت هي الدافع وراء فكرة وعملية الحوار، سواء الحوار العربي الاوروبي او حوار الشمال مع الجنوب. ولكن الامر يختلف في موضوع حوار الحضارات الذي نشأ وتطور في الاصل لمواجهة ورفض فكرة صدام الحضارات. فالدافع الى حوار الشمال والجنوب لم يكن هو الخوف من نشوء صدام بين دول الشمال ودول الجنوب، والدافع للحوار العربي الاوروبي لم يكن ايضا هو الخوف من نشوء الصدام بين العرب واوروبا، ولكن حوار الحضارات كما ذكرت هو حوار يهدف في المقام الاول الى تجنب احتمال الصدام بين الحضارات وخاصة الحضارتين الاسلامية والغربية، كما يهدف بالمقام الثاني الى تطوير اسس وسبل التفاعل الاقتصادي والسياسي والثقافي بين الدول والشعوب. وبيت القصيد هو ان اهمية حوار الحضارات كما هو مطروح في الوقت الحاضر تأتي من ارتباطه المباشر بتحقيق السلم والامن الدوليين ولضمان الازدهار والتقدم العالمي وليس فقط من اهتمامه بمعالجة بعض القضايا السياسية والاقتصادية في العالم.

ويختلف حوار الحضارات عن غيره من الحوارات الاخرى ايضا، ليس فقط في اهميته وضرورته ولكن في صعوبته وفي كثرة التحديات التي تواجهه. فالمضمون الرئيسي لحوار الحضارات هو مضمون ديني وثقافي وقيمي اضافة الى مضامين سياسية واقتصادية اخرى، بينما المضامين الرئيسية للحوارات السابقة هي في المقام الاول مضامين سياسية واقتصادية وتقنية. وبينما كانت الجهات الرسمية وشبه الرسمية في الحوارات السابقة هي التي تمثل اطراف الحوار مع الآخر او الآخرين، اما بشكل مباشر او من خلال المنظمات والمؤتمرات الدولية، فإن طبيعة ومضامين حوار الحضارات جعلت جهات الحوار في كل طرف تضم عناصر مختلفة من مؤسسات المجتمع الاهلي. وسيكون من الصعب على طرفي الحوار الاسلامي/الغربي الاتفاق على معايير موحدة في الكثير من نقاط الاختلاف الثقافية التي تقوم على مرجعية دينية. ولا بد في نهاية المطاف من ان يتركز الحوار في بعض الامور الصعبة على تجسيد مبدأ التسامح الحضاري وقبول كل طرف للاسس والمعايير والانماط القيمية والدينية والنظامية والسلوكية الموجودة لدى الطرف الآخر من دون ان يؤدي ذلك الى تنازل اي من الطرفين للآخر عن قيمه وثوابته التي يتمسك بها.

فاذا تأملنا في الحضارتين الغربية والاسلامية نجد اختلافا جوهريا بينهما، مثلا في مسألة العقوبات وفي قضية المرأة ووضعها القانوني والاجتماعي. فالدول الغربية باستثناء اميركا واليابان لا تطبق عقوبة الاعدام وتدعو بقية دول العالم الى الامتناع عن تطبيقها. ولكن غالبية الدول الاسلامية بالمقابل تلتزم بتطبيق عقوبة الاعدام. وتوجه بعض المنظمات الدولية الخاضعة للنفوذ الغربي وكذلك منظمات المجتمع الاهلي في الدول الغربية انتقادات شديدة الى الدول الاسلامية التي تطبق الشريعة وتتمسك بحد القصاص. وبالمقابل فإن الدول والمجتمعات الاسلامية لا تتدخل في شؤون الدول الغربية ولا تدعوها الى العودة لتطبيق عقوبة الاعدام التي تخلت عنها بالتدريج خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وكذلك الامر بالنسبة لقضية المرأة، حيث يمكن الاشارة الى بعض نقاط الاختلاف بين المسلمين والغرب في ما يتعلق بهذه المسألة واهمها:

1 ـ مبدأ قوامة الرجل على النساء في الاسلام.

2 ـ وزواج المسلمة من غير المسلم.

3 ـ ونصيب المرأة المسلمة في الميراث.

4 ـ وتعدد الزوجات. وترى بعض مؤسسات حقوق الانسان الغربية ان هناك تمييزا واضحا ضد المرأة في هذه النقاط الاربع في الدول الاسلامية، وتطالب بتغيير الوضع القائم بخصوصه. وعلى الرغم من وجود ردود اسلامية واضحة على جميع هذه النقاط إلا ان غالبية المفكرين الغربيين لم يقبلوا بها وما زالوا يصرون على اثارتها ويدعون الى تغييرها بالرغم من انها مسائل شرعية يصعب مطالبة الدول الاسلامية بالتخلي عنها من قبل غرباء غير ملمين بأمور الشريعة. ويقابل هذا الموقف الغربي القائم على التدخل في شؤون المجتمعات الاسلامية موقف مغاير تماما يقوم على عدم وجود اي تدخل جوهري من قبل المجتمعات الاسلامية في حياة المرأة الغربية في الغرب وحتى اثناء وجودها في المجتمعات الاسلامية باستثناء بعض الحالات. فمن المألوف ان نسمع اصواتا غربية كثيرة تطالب المرأة المسلمة المحجبة بخلع الحجاب وقد يصل الامر احيانا الى درجة الزامها على نزعه. ولكن ليس من المألوف بين المسلمين ان نسمع اصواتا تطالب المرأة غير المسلمة بلبس الحجاب الاسلامي او الزامها على ذلك.

هذا هو واقع الحال في هاتين المسألتين ـ (عقوبة الاعدام ـ ووضع المرأة) ـ وغيرهما كثير، ولكن بالرغم من ذلك فعادة ما تتهم المجتمعات الاسلامية بالتشنج الحضاري وعدم التسامح ورفض الطرف الآخر. وقد يكون هذا صحيحا بالنسبة لفئة صغيرة من المسلمين المعروفين بكره الآخر ومحاربة قيمه اينما وجدت. ولكن حقيقة الامر هي ان غالبية المجتمعات الاسلامية ترفض انماط وقيم الآخر فقط عندما يحاول هذا الآخر (وهو على الاغلب الغرب) فرض قيمه وانماط سلوكه عليها. ولكنها لا تُعنى برفض ومحاربة قيمه عندما يحتفظ بها لنفسه. اي انها تقبل ما لديه شريطة ان يقبل هو ما لديها. وعلى الرغم من ان نسبة كبيرة من المسلمين غير معجبين بالكثير من قيم وانماط السلوك الغربية الا انهم لا يتدخلون في شؤون الغرب ولا يطالبونه بتركها وباقتباس القيم الاسلامية بديلا عنها. والعكس غير صحيح طبعا، فالغرب غالبا ما يُفصح عن انتقاده للقيم الاسلامية وغالبا ما يطالب المسلمين بالتخلي عنها وتبني القيم الغربية.

واذا كان مبدأ التسامح الحضاري يعني قبول كل طرف للاسس والقيم الحضارية القائمة لدى الطرف الآخر، فإن المجتمعات الاسلامية في الحقيقة ـ وخاصة اذا استبعدنا بعض المغالين والمنغلقين والمتطرفين ودعاة العنف ـ تبدو اقل بكثير في تشنجها الحضاري من بعض المجتمعات الغربية واكثر قدرة واستعدادا لقبول التسامح الحضاري في تعاملها وتداخلها مع الآخر وذلك من خلال التزامها بالآية القرآنية العظيمة «لكم دينكم ولي دين»، صدق الله العظيم.