الرجال والجمال

TT

لن يطول الوقت قبل ان يستسلم الرجال امام غواية مستحضرات تردم التجاعيد او تشد انسجة العنق او تضيء البشرة الباهتة. وقريبا جدا سنرى الرجال يدخلون متاجر الجمال، من دون تردد او خجل، مطالبين بحقهم في ترطيب شفاههم ومكافحة الهالات السوداء التي تحيق بعيونهم او الندوب التي يخلفها العمر على وجوههم. وقد يعتبر البعض ما نقوله استفزازا استهزائيا لكننا نكاد نجزم بأن شبابنا الصغار الذين لا يوفرون اليوم، مستحضرات ازالة الرائحة وكريمات ما بعد الحلاقة و«جيل» تصفيف الشعر على انواعه ويتابعون آخر اخبار صيحات العطور سنراهم، بعد سنوات معدودات، ينافسون شريكاتهم، علنا وجهرا، في صيانة تألقهم من اهتزازات لا بد يهتز لها الوجدان حين تصبح تعبيرا قارصا عن بدء العد العكسي صوب الافول. تلفت حولك تر انخفاضا ملموسا في عدد المؤمنين بأن «الشيبة هيبة» و«الكرش وجاهة» و«الصلع دليل ذكاء». والرجال لا يتوانون عن ممارسة رياضة تمنحهم الرشاقة او الخضوع لاشعة الليزر او الليزك للتخلص من النظارات الطبية والاهم من هذا وذاك عمليات زرع الشعر التي ما تزال بدائية لكنها تخدم المتأزمين والطافح كيلهم.

ليس ما نقول بحاجة لاثبات، فالجمال والشباب والديناميكية والثقة بالنفس هي اساس مقومات الانسان العصري (رجل او امرأة)، على عكس الانسان البائد الذي كان يتباهى بالنبل والشرف والشهامة. وان كان من هاجس للبحث الطبي الحديث فهو ان يمدد اعمارنا الى ما بعد المائة ويبقينا في حالة زهو وفتوة حتى لحظة هبوطنا قاع القبر. فالكائن الهرم لم يعد مقبولا، والبشاعة هي فعل قرار شخصي وليست قدرا الهيا محتوما، ومن به علة لا تتناسب والقالب الجمالي للألفية الثالثة ليس له سوى اصلاح عيوبه في اقرب عيادة من بيته. اما المكابرون والمعاندون فسيحصدون نتيجة تمنعهم ندما وعزلة واحساسا بالنقص في عصر التماثل الاستنساخي وهيمنة اللون الواحد.

وكما تجدنا ملزمين بالانصياع لقوانين منظمة التجارة العالمية، ولو بعد سيناريو من المفاوضات الشكلية لا بد ان تلمح كيف اننا خضعنا لمنطق هذه القوانين حتى قبل التوقيع على بنودها، ولم نتأخر قيد أنملة عن تدعيم وأدلجة غريزة هيمنة القوي على الضعيف والغني على الفقير والجميل على الأقل جمالا. ولم تشغلنا مفارقة تدني قيمة جوهر الانسان في اللحظة التاريخية الحاسمة التي استبدت فيها حضارة حقوق الانسان الا بعد ان اصبح هذا الاستبداد محكما وخانقا. والعلة ليست في الاحتفاء بالجمال الذي شغل الفلاسفة وخلب المبدعين من ارسطو الى كانت وبرغسون مرورا بعباقرة القلم اجمعين، وانما في جعل هذا الجمال خاضعا لمقاييس شرسة ودكتاتورية المعايير وحض البشرية على تعديل قوالبها ونحت اجسادها وملامح وجوهها بما يتلاءم والصورة المنمطة المفروضة على سكان الكوكب من خلال حرب نفسية وتجارية لم يشهد لها العالم مثيلا حتى صار المتوسطيون يذوبون قهرا من نحافة الاوروبيين والسود ينقعون اجسادهم تحت الشمس طلبا لـ«البرونزاج» ثم يدفعون ما في جيوبهم ثمنا لمساحيق تبييض البشرة. وعش رجبا تر عجبا، والآتي اعظم خاصة ان هذا الجمال المنتخب والمختار من بين جماليات لا تقل فتنة يتمفصل تلقائيا مع المال ويكونان معا إذا ما اضيف اليهما الشباب ثالوث النجاح ومفتاح الابواب الموصدة الذي يشتهيه كل متطلع الى المجد والتفوق. وحتى لو كنت عربيا قحا تعرف ان الجمال في لغتك مشتق من الجمل والأناقة من الناقة والخيلاء من الخيل، اي انك تدرك في قرارة نفسك ان الجمال بمفهومه الجديد يستند جذريا الى ما هو حيواني دون ان يترك متسعا لعقل او حكمة ستجد انك منساق لا محالة الى البحث عن الرضى والاعجاب في عيون الآخرين ولو كان في احيان كثيرة على حساب احترامك لنفسك وقناعاتك المقاومة على جبهة الهزيمة.

بإمكانك ان تقرأ تصاعد اسهم الجمال على اغلفة المجلات الغربية بما فيها السياسية التي تخص قراءها باستمرار بملفات وافية حول الشباب والريجيم والاطعمة الصحية وعمليات التجميل والرشاقة والاناقة، تماما كما تفعل في معالجة الارهاب وقضية الشرق الاوسط والازمات الاقتصادية ومشكلات الادمان. وفي كل مرة تكتشف ان ثمة جديدا يضاف الى ما كنت تعرفه وتدرك حجم المكانة التي سيحتلها الجمال في السنوات المقبلة على حساب ما تبقى للدواخل البشرية من اعتبار. وها هي مجلة «اكسبرس» في عددها الاخير تؤكد ان عدد الرجال المستهلكين للمستحضرات التجميلية ارتفع 10.6 في المائة مقابل ارتفاع لم يتجاوز 6.6 في المائة بين النساء. وتبشرنا المجلة في ملفها القيم الذي خصصته للجمال ان صناعته باتت من المكانة بحيث تتطلب تعاونا بين صناعييه والشركات التكنولوجية العملاقة ومن بينها «ايروسبسيال» الرائدة عالميا في صناعة الطائرات وقد تفهم مغزى هذا التعاون الغريب بين اختصاصين مختلفين ظاهريا، اذا علمت ان وكالة الفضاء الاميركية NASA التي تتعاون مع خبراء التجميل هي صاحبة الفضل الاول في ايجاد تكنولوجيا شديدة التطور بإمكانها قياس عمق التجاعيد، وهي تقنية تشبه الى حد بعيد تلك التي تستخدمها الوكالة لكشف تضاريس الكواكب عن بعد، وهكذا نكون قد عثرنا على اجابة شافية لادراك العلاقة العتيقة بين الوجه الجميل والقمر بينما ترتسم عشرات الاسئلة المستجدة حول ما سيكون للجمال من شأن في مستقبل البشرية وهل سيجيد البشري السباحة في نعيم الشباب والجمال ام سيغرق في سراب الخديعة، فمعلوم ان كلمة ماكياج بالفرنسية تعني في الاصل التزوير والزيف والتقنع والتخفي، والماكياج كان للممثل يوضع على وجهه ليتقمص شخصية أخرى ليست له لكنه ملزم بإدائها واقناعك بها والا كان الماكياج رديئا والممثل فاشلا، وقبل الفرنسيين وماكياجهم كان الخضاب العربي الذي اعتبره المتنبي تمويها، وذهب الى ابعد من ذلك حين رأى اللحم البشري بحد ذاته ماكياجا تمويهيا، وتخيل الحب في مشهد فجائعي، حين يذوي كل شيء وتسقط الاقنعة ولا يبقى إلا هيكلان عظميان متعانقان. السنا بحاجة الى زيف الدنيا وكل أوهام الكون لتناسي هذه الصورة القبيحة والاحتفال بعيد الحب؟

[email protected]