التنوير والحلم بعالم أفضل

TT

يرى الباحث «اولريتش ام هوف»، استاذ التاريخ الحديث بجامعة بيرن في سويسرا، ان التنوير كان يهدف إلى القضاء على العبودية والخرافات الدينية، كما كان يهدف إلى مطاردة الأشباح والظلمات، لكن المتعصبين الدينيين كانوا يريدون العكس: أي الإبقاء على الظلمات، والعمى، والجهل. وكانوا يحقدون على الأنوار التي أخذت تبزغ في الأفق قليلاً، قليلاً.. لماذا دعي القرن الثامن عشر بعصر التنوير؟ لأننا إذا ما نظرنا إلى القرون السابقة له، وجدنا أنها كانت محرومة من النور فعلاً. بالطبع لا يمكن القول بأن ديكارت الذي عاش في القرن السابع عشر لم يكن مستنيراً!.. كذلك الأمر في ما يخص غاليليو، وبيير بايل، وسبينوزا، ولايبتنز، ومالبرانش، وعشرات غيرهم، لكنهم عاشوا في عصر غير مستنير، وكانوا الاستثناء على القاعدة، بدءاً من القرن الثامن عشر، ومن منتصفه على الأقل، أصبح الناس في أوروبا يشعرون بأنهم سائرون نحو عالم أفضل، عالم متطور أكثر فأكثر، ولم يعودوا محكومين بالنظرة اللاهوتية.

وفي تلك الفترة، راح فولتير يبلور الفلسفة الجديدة للتاريخ، وهي فلسفة تقول بأن الجنس البشري سائر نحو التقدم والتحسن لا محالة، وأسس بذلك الفلسفة المتفائلة للتاريخ، الفلسفة التي تعطي ثقتها للطبيعة البشرية وتؤمن بطاقات الإنسان وقدرته على تحقيق المعجزات. وفعلاً، فقد تحققت هذه المعجزات على أيدي الحضارة الأوروبية الحديثة التي نشهدها بأم أعيننا اليوم، وهي حضارة تدهشنا، بل وتصعقنا أحياناً، نحن الوافدين إليها من المجتمعات التقليدية، مجتمعات ما قبل الحداثة أو الحرية والديمقراطية. لقد ولّد فولتير سلسلة من فلاسفة التاريخ الذين جاءوا بعده ومشوا على اثره من حيث التفاؤل بمستقبل الجنس البشري. نذكر من بينهم ليسنغ، او كانط، او كوندورسيه.

لكن التنوير لم يكن يقتصر فقط على إضاءة الحياة الفكرية بشكل جديد، وإنما كان يهدف إلى إضاءة كل مجالات الحياة من اقتصادية، وتجارية، وسياسية، وعسكرية. فالحياة السياسية، ينبغي أن تصبح مستنيرة، أي تمشي على ضوء العقل، وكذلك الأمر في ما يخص الحياة المدنية في المجتمع، والنظام التعليمي، والتربوي، وحتى الزراعة، والصناعة، والدين، والأخلاق، وكل شيء..

لقد ظهرت حركة التنوير في فترة محدودة تماماً من تاريخ البشرية الأوروبية، وهي التي صنعت حضارتها التي تحسدها عليها بقية بقاع الأرض. وعندما ظهرت كانت الساحة محتلة كلياً من قبل الرؤية الدينية أو اللاهوتية للعالم. وكان محتماً أن يحصل الصدام بين الفلسفة الإنسانية الجديدة وبين هذه الرؤية التراثية العريقة المتجذرة في حياة الشعوب الأوروبية منذ عشرات القرون. فالمسيحية كانت متجذرة في تاريخ الشعوب الأوروبية تماماً كما هو الإسلام متجذر حالياً في تاريخ الشعوب العربية أو الباكستانية أو سواها. ذلك أنه ينبغي ألا تخدعنا المظاهر الحالية للحضارة الأوروبية التي تبدو متحررة من كل قمع لاهوتي وكأنها لم تعرف الدين في تاريخها كله!. ونحن الذين نجيء إليها من الخارج نتوهم أحياناً وكأنها كانت دائماً هكذا منذ الأزل وإلى الأبد!. في الواقع أنها كانت أصولية، مسيحية، متزمتة، ومنغلقة على نفسها مثلنا الآن وأكثر، لكن عصر التنوير هو الذي حرّرها من أصوليتها وتزمتها بعد أن خاض معاركه الشهيرة ضد الجمود الكنسي. من هنا، أهمية هذا العصر وضرورة التوقف عنده طويلا، لكي نفهم كيف نشأت الحضارة الغربية الحالية. ولا يمكن أن يحصل حوار ناجع مع الغرب إلا إذا فهمنا عقليته الحديثة التي تشكلت بعد عصر التنوير أو بدءاً منه. إذا لم نفعل ذلك فإن الحوار معه سيظل حوار طرشان، أي لا جدوى منه. ولذلك أقول بأن الحوار بين عالم الغرب وعالم الإسلام مستحيل في الوقت الراهن، لماذا؟ لأنه لا توجد قيم مشتركة أو معايير مشتركة للحوار. وبالتالي فكل يغني على ليلاه، ولا يستمع إلى ما يقوله الآخر. فالقيم التي لا نزال نتشبّث بها نحن حتى الآن هي بالضبط تلك التي تخلّص منها الغرب بعد التنوير أو بفضله!.. فكيف يمكن للتواصل ـ أو للتفاهم ـ أن يحصل في مثل هذه الظروف؟، ثم يتحدثون لك بعدئذ عن حوار الحضارات، أو عن صدامها، لكأنه توجد عندنا حضارة مزدهرة لكي تحاور حضارة الغرب أو حتى تصطدم معها!.

أين هو إسهامنا منذ أربعة قرون في مجال الحضارة الإنسانية: اقصد في مجال الطب، والصيدلة والأدوية، والعلاجات، والتكنولوجيا، واختراع الآلات الحديثة، وتخفيف الآلام عن البشرية؟ أين هو إسهامنا في العلوم الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية وتطبيقاتها؟ بل أين هو إسهامنا في مجال العلوم الإنسانية والفلسفة؟ فنحن لم نخترع نظرية فكرية واحدة، ولا حتى مصطلحاً فلسفياً واحداً، منذ أن كانت حضارتنا الكلاسيكية قد انهارت قبل ثمانمائة سنة (تاريخ موت ابن رشد).. ثم يزعلون لأن الغرب يصادمنا حضارياً، كما لو أنه توجد عندنا حضارة لكي يصادمها الغرب!. لذلك فإن نظرية صدام الحضارات ساقطة من أساسها، لا أقول هذا الكلام لكي أعلن تأليه الحضارة الغربية، كما يزعم بعضهم. ففيها نواقص كثيرة وانحرافات عديدة، لكن لا أحد ينكر وجود حضارة في الغرب، هل هي أنانية؟ هل هي جشعة؟ هل تطرفت في اتجاه الاستهلاك المادي المسعور والملذات التي لا نهاية لها؟ هل نجاحاتها العلمية والتكنولوجية أكبر من نجاحاتها الأخلاقية ـ الروحية؟ هذا شيء مؤكد. من هنا، ضرورة نقد الحداثة أو نقد الحضارة الغربية الحديثة، لكن لا يمكن أن ننقدها بشكل مسؤول، إلا إذا عرفنا أولا كيف تشكلت لأول مرة وبناء على أية أسس فكرية أو فلسفية. ولهذا السبب، فإني أتوقف عند عصر التنوير مطولاً. ينبغي أن نعلم أن التنوير الذي حصل قبل مائتي سنة، والذي شكل كل هذه الحضارة هو مفخرة أوروبا ومجدها، وبه تتمايز على كل الثقافات البشرية الأخرى. لقد كان التنوير في البداية يمثل رد فعل تجاه الارثوذكسية الدينية المسيطرة (أي الأصولية). هذا هو جوهر التنوير، ولا يمكن أن نفهمه إن لم نأخذ هذه النقطة المركزية بعين الاعتبار. كل فلاسفة التنوير اصطدموا بلحظة أو بأخرى، برجال الدين. وكلهم كانوا مرعوبين من الأصولية المسيحية، خاصة في نسختها الكاثوليكية المتحجرة. ذلك لأن المذهب البروتستانتي كان أكثر انفتاحاً على روح العصور الحديثة، دون أن يعني ذلك أنه لا توجد نواة أصولية في البروتستانتية.. في الواقع ان التنوير كان يهدف للتوصل إلى حرية الكلام والكتابة، وكان شعاره ما يلي: من له الحق في التفكير بحرية، فإنه وحده يفكر بشكل جيد. وهذا التفكير الحر ضروري لإصلاح الوضع السائد آنذاك، والذي لم يكن مرضياً على الإطلاق. وكان فلاسفة التنوير يريدون إصلاح كل شيء: من السياسة، إلى الدين، إلى الأخلاق الاجتماعية، إلى الاقتصاد والزراعة عن طريق تطوير العلم والتكنولوجيا. هكذا نجد أنهم كانوا يحملون مشروعاً متكاملاً للمجتمع، ولهذا السبب استطاعوا الانتصار على الأصوليين بعد أن أقنعوا قسماً كبيراً من الناس بصحة ومصداقية مشروعهم. لقد قدموا الفلسفة كمشروع جديد مضاد لعلم اللاهوت المسيحي، أو كبديل عنه، فمفكرو القرن الثامن عشر، كانوا يعتبرون عصرهم عصر الفلسفة بامتياز. وكانوا يحبون ان يطلقوا على أنفسهم تسمية: الفلاسفة. وكان رجال الدين يسخرون منهم ومن فلسفتهم ويحاربونها بأسلحة التبجيل المسيحي المستمد من الكتب المقدسة وهيبتها الكبيرة. وعلى هذا النحو، اشتعلت المعارك بين الطرفين، ولم يكن الانتصار سهلاً ولا مضموناً منذ اللحظة الأولى، فكلية علم اللاهوت (أو علم أصول الدين)، كانت هي أم الكليات في مختلف جامعات أوروبا، لكن الفلسفة استطاعت أن تنتزع منها هذه المكانة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بعد أن خاضت معها معارك طاحنة. كانت الفلسفة تعني بالنسبة لهؤلاء المفكرين الجدد من أمثال ديدرو، أو دالامبير، أو فولتير، أو سواهم: محبة الحكمة والحقيقة. وهو المعنى نفسه الأصلي لدى الاغريق، لكنها كانت تعني ايضا تحصيل المعرفة الدنيوية وليس الدينية، كذلك ممارسة العلم الطبيعي، لكنها كانت تعني بشكل خاص تطبيق المنهج النقدي بكل حرية على جميع الموضوعات: كالأخلاق والدين، أو السياسة والدولة، أو الفنون والعلوم، لكن عندما كانوا يتحدثون في منتصف القرن الثامن عشر عن جماعة الفلاسفة، فإنهم كانوا يعنون جماعة محددة بعينها هي: فئة الفلاسفة الفرنسيين المتحلّقين حول موسوعة ديدرو. فهذه الموسوعة لخصت كل مشروع التنوير، وساهم فيها تقريباً جميع فلاسفة ذلك الزمان. كان ديدرو (1713 ـ 1784)، شاباً منفتحاً جداً على جميع المعارف والعلوم، وكان أبواه يريدان أن يصنعا منه كاهناً!، لكنه استطاع التخلص من أسر العقائد اللاهوتية والكنسية بفضل ذكاء حاد وعبقرية مبكرة، وأصبح في ما بعد العدو اللدود لرجال الدين. والواقع أنه كان من أشد الناس تحمساً لفلسفة التنوير، وربما لولاه لما انتصرت في فرنسا، وأهميته في هذه الناحية لا تقل عن أهمية فولتير.

فمشروع الموسوعة كان في الحقيقة عبارة عن آلة حربية موجهة ضد الانغلاق الأصولي المتزمت. لذلك، اعتبرها اليسوعيون (أي قادة الأصولية المسيحية آنذاك)، بمثابة «كتاب الشيطان»!. وحاولوا إيقافها أكثر من مرة، ونجحوا في ذلك مؤقتاً، لكنها استمرت بشكل سري أو علني حتى النهاية. وهي تشتمل على جميع معارف ذلك العصر، وفي كل الاختصاصات. ويبدو أنها استنفدت كل طاقات ديدرو بسبب المقاومات، والعرقلات، والمراقبات، والتهديدات التي تعرض لها، فشعر باليأس في أحيان كثيرة وفكر في الإقلاع عن المشروع، لكن كفاه فخراً أنه خاض من خلالها، أو بواسطتها، معركته الفكرية ضد الجمود العقائدي والإرهاب الأصولي.

* كاتب سوري مقيم في باريس