خيارات تركيا في العراق أشد تعقيدا مما تفرضه

TT

تعد تركيا الأكثر تفاعلاً مع ما يتردد بشأن توجيه ضربة أمريكية إلى العراق في إطار ما يسمى بالحرب على الإرهاب في العالم، والأكثر تعبيراً عن أفكار متناقضة حيالها، يغلب عليها الهوس والارتجالية والتنكر للأعراف الديبلوماسية. فمن جهة، تشدد الأوساط التركية على عدم ضرب العراق أو تقسيمه أو إقامة دولة كردية فيه، ومن جهة أخرى، تهدد بضم ولاية الموصل إلى تركيا، وثالثة توافق على ضربه التزاما بحلف الأطلسي، ان دلت على شيء، (الأفكار المتناقضة)، إنما تعكس مواقف القيادة التركية المتناقضة، وتظهر خلافات بين أركانها. ولو أمعنا الفكر في الحرص التركي على عدم ضرب العراق، لوجدناه يفوق حرص العراق نفسه. إلا أن التهديد باقتطاع ولاية الموصل، يناقض حرص تركيا، ويجعل من العراق مشروعاً دائماً لأطماعها التي تشكل الخطر الأكبر على وحدة واستقلال العراق، وليس الكرد أو الولايات المتحدة أو أي طرف آخر. ويوحي التهديد التركي بضم ولاية الموصل للوهلة الأولى، بمعاداة الطموحات القومية الكردية، وفي هذا بعض من الحقيقة وليس كلها، إذ ان مراجعة لخلفية هذا العداء، ترينا أنها معاداة لاستقلالية القرار العراقي أيضا، علما بأن أطرافاً إقليمية أخرى كانت تلتقي مع العداء التركي سيما في منتصف القرن الماضي، لكنها شرعت بالتراجع عنه إلى حد ما في الأعوام الأخيرة، على الأقل تصريحاً. فعند إقرار الزعيم (عبد الكريم قاسم) بشراكة الكرد للعرب في الوطن العراقي عام 1958، وُصف قاسم بـ(قاسم العراق)، وعندما اعترفت الحكومة العراقية بالحكم الذاتي لكردستان العراق بموجب بيان آذار 1970، وُصف الاعتراف بأنه تمهيد لخلق (إسرائيل ثانية)، لكن العراق في الحالتين لم يقسم ولم تظهر فيه (إسرائيل ثانية)، كما زُعم، وباعتراف الجميع، فإن الوحدة العراقية منذ تأسيس الدولة العراقية مرت بعصرين ذهبيين إن جاز القول، الأول في الشهور الأولى لانقلاب 14 تموز 1958، والثاني في الفترة (1970 ـ 1974) حصراً.

ولعل أول ما يقفز إلى الأذهان ان الصيغ المطروحة لحل القضية الكردية (الحكم الذاتي)، أو (الفيدرالية)، أو (الدولة الكردية) من شأنها كمثال، ان تخلق حالة من الاضطراب والحرب في الدول التي تتعاطى مع الشأن الكردي، في وقت برهن فيه واقع الحال على عقم تأثير المثال ليس في الحالات القومية فقط، إنما في الحالات الطبقية أو الدينية كذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة: ان وجود دولة باسم تركمانستان في آسيا الوسطى، لم يشكل حافزاً لانفصال تركمانستان الشرقية عن الصين، وقل الشيء ذاته عن دولة (أذربيجان)، وفي المنطقة نفسها والتي لم تؤثر على اذربيجان الإيرانية، ولا دولة مقدونيا على أجزاء مقدونيا الأخرى والموزعة على دول في البلقان. وهكذا لا يشترط أن يشكل قيام دولة كردية وفي أي جزء كان من أجزاء كردستان حافزاً لانفصال بقية الأجزاء عن الدول التي تتحكم بها، ولا يشترط أيضاً أن تكون الدولة الكردية داعمة لمطالب الكرد في أجزاء كردستان الأخرى، فالعلاقات التي سادت بين الأحزاب الكردية في الدول التي تتقاسم كردستان، قبل ظهور الكيان الكردي شبه المستقل في كردستان العراق، كانت تتميز في الغالب بالخصومة والتصادم ولم يغير ظهور الكيان ذاك من طبيعتها. ليس هذا وحسب، بل ان هذا الكيان اعطى الأولوية في علاقاته لهذه الدول، لذا فإن الحكم على المثال (الدولة الكردية) وحده بمعزل عن العوامل الأخرى، يشبه إعطاء الأولوية للعامل الاقتصادي وحده، في توجيه مسار التاريخ ورسمه. والمهولون لتأثير المثال الكردي لا يأخذون طبيعة سياسة الدول التي تتعامل مع القضية الكردية، ولا مصالح الكرد المتباينة في كل جزء من أجزاء كردستان، ولا التطورات في العالم وغيرها، التي تقرر توجهات الكرد وطموحاتهم، وليس المثال لوحده كما يفهم خطأ.

ان القلق التركي من قيام دولة كردية في العراق وتقسيم العراق، مرده احتمال انتقال ذلك كمبدأ في حال إقراره من قبل المجتمع الدولي، إلى تركيا التي تضم نحو (18 ـ 25) مليون كردي أو يزيد، الذين رفعوا شعار الانفصال عن تركيا وإقامة الدولة الكردية جراء الرفض التركي المتواصل لأبسط مطالبهم القومية. وعلى النقيض من الدول الأخرى ذات العلاقة بالشأن الكردي، التي أبدت وتبدي بعضاً من المرونة والتفهم لطموحات الكرد القومية، فإن احتمال ظهور دولة كردية في تركيا اقوى بكثير من احتمال ظهورها في العراق، لأن تمسك الكرد العراقيين بالوحدة العراقية صار استراتيجية ثابتة من الصعب أن يحيدوا عنها في المستقبل المنظور، اضف الى هذا ان شعار الملايين الكردية في تركيا هو الانفصال وإقامة الدولة الكردية، بسبب التصلب التركي إزاء مطالبهم، ولا ننسى ان المجتمع الدولي لم يعترض في يوم ما على رفع حزب العمال الكردستاني التركي شعار الاستقلال وإقامة الدولة الكردية، إنما اعترض على نهجه الإرهابي التخريبي.

اذن لماذا تبدي تركيا خوفاً شديداً من قيام دولة كردية حصراً في كردستان العراق، وليس في الدول الأخرى التي تتقاسم كردستان؟

يقيناً ان قيام هذه الدولة من شأنه أن يحرم تركيا من أهم رافد لاقتصادها، متمثلاً بالعراق، الذي هو بمنزلة حديقة خلفية ان جاز التشبيه، للأتراك على مدى نحو قرن. ثم ان قيام هذه الدولة أو حصول تغيير في العراق لا يرضي تركيا مما قد يترتب عليه افشال المشاريع المائية لتركيا، والتي تأمل في أن تكون أداة ضغط على العراق الذي سيكون بمثابة السوق الأكبر للمياه التركية في المستقبل بعد سوريا، علما بأن غالبية الأنهار العراقية تنبع من جبال كردستان تركيا. ومما لا ريب فيه ان حجب الخيرات العراقية عن تركيا بالمرة سيضعفها أمام خصومها التقليديين وفي مقدمتهم اليونان وسوريا وارمينيا، كما أن ضعفها سيتسبب في تراجع أهميتها لدى حليفاتها التقليديات، أمريكا وإسرائيل والاتحاد الأوروبي أيضاً.

ان تركيا الآن، وكذلك في العقود الماضية، لم تظهر مخاوف تجاه المثال الكردي (جمهورية كردستان) في إيران في الماضي، ولا من التقدم الملموس للحقوق القومية الكردية اليوم في إيران، كما لم تعر أهمية لما حصل عليه الكرد في ارمينيا المجاورة لها من حقوق، ومشروع (كردستان الحمراء) بعد ثورة أكتوبر في روسيا عام 1917، كل ذلك بسبب تحول هذه الدول إلى رافد اقتصادي لها مثل العراق، هب ان زعيماً إيرانياً سار على خطى غورباتشوف والبيروسترويكا، ومنح الشعوب الإيرانية من غير الفارسية استقلالها، ترى هل تحتج تركيا حينئذ على قيام دولة كردية بجوارها عند حدودها الشرقية مع إيران؟

وهكذا، يمكن القول بأن اقتطاع ولاية الموصل ليس بالأمر السهل، كما تعتقد تلك الأطراف ان لم نقل المستحيل. وعلى تركيا ان تحسب حساباً قبل كل شيء للمشاعر الوطنية العراقية لكرد وعرب العراق في آن معاً، وسيقود ذلك إلى احتمال تصادم مع حليفاتها، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وحتى العالمين العربي والإسلامي.

* صحافي وكاتب سياسي (كردستان العراق)