هل شتيمة أميركا كافية للاعتذار عن تأجيل التغيير؟!

TT

شئنا أم أبينا، فقد غَيَّرَ يوم 11 سبتمبر عالمنا. لكن بعد خمسة شهور، كسبت أميركا الحرب وخسرت السياسة. والتقط العرب أخطاء السياسة الأميركية للتستر بها على عيوبهم وأخطائهم، وللاعتذار عن عدم الرغبة في الاصلاح والتغيير.

كانت حرب أميركا في أفغانستان انتقاما صريحا أكثر منها دفاعا عن النفس وكبرياء دولة كبرى جريحة. وبدت المواجهة الهمجية بين أميركا والاسلام الانتحاري وكأنها حرب دينية من حروب الاستئصال بين الحضارات في العالم القديم والعصور الوسطى. فقد تمت الهجمة على الأبراج تحت شعار «الجهاد ضد الكفار». وعلى الرغم من النفي، فقد تم الانتقام من جهادية طالبان والقاعدة! وها هو الاستعمار القديم يعود الى العالم الإسلامي باسم الانسانية الدولية وحق التدخل. فبعد تكسير «القاعدة» وتحطيم طالبان، تسلم أميركا أفغانستان الى قوات «السلام» الأوروبية لكي تقوم بتأهيل المجتمع الأفغاني ليكون «دولة حديثة» تعرف كيف تتعامل مع العصر وتحترم قواعد سياسته وتجارته. وهي الذرائع ذاتها التي ساقها الاستعمار الأوروبي في هجمته على العالم القديم في آسيا الإسلامية وغير الإسلامية.

بعد ان يطلب قسيس تكساس من تلامذة المدارس الأميركية اقامة الصلاة اليومية، يعلن عن تطوير حربه ضد الإسلام «الجهادي» الى حرب ضد الإسلام «الصاروخي» و«النووي»، حرب مقدسة أخرى ضد «محور الشر» الذي يضم دولتين إسلاميتين أخريين! منطق لا معقول أن تعلن أقوى دولة نووية وصاروخية في العالم الحرب على العراق وايران لمنعهما من امتلاك أسلحة غير تقليدية، فيما تحتكر اسرائيل حليفة أميركا السلاح النووي في المنطقة. ومنطق مخجل أن تحتشد الجيوش والأساطيل ضد هاتين الدولتين وتحت هذه الشعارات، بدلا من شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان.

بل تهديد ايران بـ «الخبط» العشوائي يحرج الأجنحة الإصلاحية الايرانية في نضالها من أجل ايران أكثر انفتاحا وتحررا، ويعيد زمام المبادرة في الصراع الداخلي الى قبضة المحافظين، ويمكنهم من قمع الإصلاحيين تحت شعار مواجهة شر «الشيطان الأكبر» الأميركي.

منطق بوش «الصاروخي» يحرج أيضا النخبة الديمقراطية والمثقفة العراقية والعربية التي تخوض المواجهة مع نظام صدام تحت شعار عراق ديمقراطي عربي متحرر من القمع الوحشي واللاانساني، ويجعلها تبدو وكأنها تسير في ركاب «تحالف شمالي» أفغاني يزحف كجيش مرتزقة الى بغداد تحت المظلة الجوية الأميركية.

نعم، كسبت أميركا حربها الانتقامية ضد القاعدة وطالبان في أفغانستان، لكنها تخسر حرب السياسة عندما تختصر المواجهة مع الإرهاب بتجنيد تقنيات الأمن والردع وتجميع المعلومات المخابراتية، دون انتهاز فرصة النصر لمساعدة الدول الحليفة لها في المنطقة في معالجة جذور المشاكل السياسية والاجتماعية والوطنية.

تخسر أميركا بوش مصداقيتها العسكرية عندما تطل على العالم من خلال منظور ضيق وشديد السذاجة والتبسيط، منظور يرى العالم بالأبيض والأسود: دول تقية صالحة، ودول شريرة ومارقة ومنظمات إرهابية. حلف مخابراتي مع دول تكافح الإرهاب، وحلف سياسي واستراتيجي مع دولة واحدة لضرب الأماني الوطنية لشعب نصفه مشرد، ونصفه محتل، وزعيمه محاصر بدبابات تطل فوهاتها على نافذته، لإذلاله أمام عدوه وشعبه، ولإظهار عجز أمته عن نجدته... كل ذلك بحجة انه لا يتضامن مع شارون في الوشاية بالإرهابيين! أميركا بوش لا تخسر عواطف العرب فحسب. بوش في مأزق حتى مع أقرب حلفائه في أوروبا الغربية. هؤلاء هم الذين يخطّئون اليوم سياسته الاسرائيلية، ويتهمونه بالتصرف بوحدانية متغطرسة مباهية بتفوق القوة.

أكاد أجد نفسي منساقا مع الحملة الكلامية ضد بوش وأميركا. فقد بات من السهل توبيخ أميركا للاعتذار عن عدم مواصلة الكلام الصعب عن التغيير والإصلاح بعد 11 سبتمبر.

أين وصل العمل والتنفيذ في مواجهة سلبية المجتمعات العربية ولإنقاذها من الدروشة والأفغنة التي تعرضت لهما على مدى ثلاثين سنة؟ أين الخطط والمناهج لإنقاذ أمة تضم 350 مليون انسان من رؤيتها العاطفية الرافضة لعالم يتقدم من حولها، عالم يزداد في تجاهلها والاستهانة بها كلما ازدادت في عدائها له، وفي تخلفها الاقتصادي والتقني والعقلاني عنه؟

لا شيء سوى توبيخ أميركا وتخطئة بوش. لولا شجاعة أمير ممتاز في الاعتراف بمشاركة 15 سعوديا في عملية الأبراج لاستمرت حملة منح البراءة لهم. فليس عيبا ان يكون في أي مجتمع قطاع تعرض للانسلاب والاستغلال، وسيق للتضحية بأعز ما يملك الانسان وهو الحياة، فيما يجبن المرشدون عن التضحية والانتحار عندما واجهتهم ساعة الحقيقة، فتواروا هاربين من أفغانستان.

بات من السهل أن تهاجم أميركا وبوش. ومن الصعب أن تسأل وتناقش مفردات فقه اجتهادي وانتحاري، فقه متقشف ورافض. فورا تواجه بالخلط بين المقدسات والاجتهادات.

عندما يتكلم تربويون وإعلاميون ومثقفون عن الحاجة لأنسنة وعصرنة التعليم الديني، تقمعهم فورا ألسنة فصيحة تحمي الاجتهاد المغلق الذي يجري تلقينه لعشرات ألوف الشباب، بالادعاء بأنك تنال من المقدس! ينسى أصحاب هذه الألسنة ان المقدس مقدس، لكن لا قداسة للاجتهاد، ولا حصانة قداسية للمجتهدين والمفسرين.

كلام جميل نسمعه من المرشدين في التلفزيون والصحيفة والمسجد عن سماحة التعليم الديني. إذا كان ذلك صحيحا، فلماذا أنتج هذا التعليم جيلا منغلقا في دينه، وانتحاريا في اجتهاده، وعاطلا عن العمل، ومعطوبا في التعامل مع تقنيات العصر وفهم عقليته وثقافته؟! نحن بحاجة الى اصلاح الجامعة الدينية والحكومية في كل العالم العربي والاسلامي. الجامعة للمتفوقين. المدارس المهنية والحرفية لتأهيل الآخرين للتفوق في مهارات يدوية ومهنية غير المهارات العلمية والادارية والذهنية المطلوبة في خريجي الجامعات. نحن بحاجة الى إصلاح المدرسة الابتدائية والاعدادية التي يُخَرِّج بها أشباهُ المتعلمين الملايين من أشباه الأميين المؤهلين للتلقي واعتناق كل ما يلقى إليهم في التلفزيون والكاسيت وأمكنة العبادة.

يمكن الحديث بإسهاب عن التعليم. لكن ماذا عن موقف الاجتهاد المغلق والانتحاري من قضايا العصر الحديث، من قضايا المرأة والحرية والإعلام وحقوق الانسان؟

لا أجد أبلغ مني في الجواب سوى شيخ الجامعة الدينية في مأرب الذي أجرت «الشرق الأوسط» مقابلة معه منذ أيام. فهو يلخص بفصاحة وصراحة الموقف الاعتذاري والسلبي الرافض إزاء هذه القضايا.

لقد بدأت الحكومة اليمنية بترحيل تلامذته العرب والأجانب لحرمانه من تخريجهم على شاكلته. لكن مسؤولية الدولة العربية بعد 11 سبتمبر أكبر وأعرض بكثير من مجرد مكافحة الانغلاق والإرهاب باحتياطات أمنية ووقائية.

على المستوى الاجتماعي، لا بد من ربط التربية بالتنمية، لتخريج جيل عامل غير معطوب أو مسلوب. لا بد من تخطيط الأسرة لوقف إنتاج أطفال وأجيال تُرمى الى الفاقة والبطالة والحرمان في الشارع، وتتعرض للانسلاب والاستغلال لدى مؤسسات وتنظيمات مريبة ومجهولة.

وعلى المستوى السياسي، فالنظام العربي الموروث من ستينات وسبعينات الانكسار والهزيمة مطالب بإدراك أن الحرب الباردة انتهت في عام 1990 بانهيار الاتحاد السوفييتي والأنظمة القمعية في العالم الشيوعي، وانتهى معها عصر المؤامرة والمكابرة على الخطأ، عصر معسكرات التدريب على الإرهاب والاغتيال، عصر جلد حقوق الانسان في أقبية التعذيب والتغييب، عصر غزو الجيران والأشقاء بقوة القسر والقهر والنار، ثم التهرب من الالتزامات الدولية بحجة الدفاع عن سيادة مُضَيَّعَة ومهزومة وعروبة زائفة ولا ديمقراطية.

النظام العربي يواجه اليوم عالما خارجيا أكثر جرأة على مبدأ السيادة والاستقلالية، وأكثر فضولا ورغبة في التدخل ومراقبة ما تصنع الأنظمة بالمجتمعات والشعوب التي تحكمها.

لقد اختصرت شبكات الاتصال والإعلام العالم بكرة صغيرة في ملعب دولي مكشوف. ونحن بحاجة الى لاعب عربي أكثر شفافية، وأكثر صراحة ومصداقية أمام الذات والعالم في الاعتراف أو في النفي. فلم تعد تكفي أو تنطلي على العالم لغة ديبلوماسية إنشائية لِلعْقِ وتلميع سياسات غامضة ومواقف غير عملية وواقعية، وللتغطية على الكآبة والسواد والإخفاق داخل البيت.