ضغوط أمريكية على السودان.. وبريطانيا تحاول تصحيح أخطاء الماضي

TT

تبدو علاقات العالم الغربي بالسودان في هذه الايام تتأرجح صعودا كل ما استجاب لما يطلب منه، وهبوطا كل ما تلكأ او تردد في الاستجابة لامر ما. فبعيد اتفاق سويسرا الخاص بوقف اطلاق النار في جبال النوبة، ابلغت المفوضية الاوروبية حكومة الخرطوم ارتياحها لهذا التطور واستعدادها للاسهام في كلفته فضلا عن عزم الاتحاد الاوروبي منح السودان جزءا متواضعا من حصته في الاموال المجمدة من المعونات التي كانت مقتطعة له وفقا للاتفاقات التجارية المتعارفة، وهو مبلغ قدر بنحو مائة وخمسين مليون يورو ستحصل الحكومة منه على الفور ما لا يتجاوز الثلاثة ملايين دولار، مع تشجيع للحكومة نحو تحقيق المزيد من الانفراج في الحريات واحترام حقوق الانسان حتى يكتمل تطبيع العلاقات.

وتأكيدا لسياسة الخطوة خطوة كانت وزيرة التنمية البريطانية التي زارت السودان مؤخرا قد خاطبت مجلس العموم البريطاني الاسبوع الماضي واصفة الاوضاع المعيشية والاقتصادية بالتردي، وان الحرب سببت رهقا لكل الاطراف، ونوهت بالانفراج النسبي، وقالت: ان كل خطوة في هذا الاتجاه من الدولة ستقابلها خطوة من المجتمع الدولي لمساعدة السودان. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل تتعامل الحكومة بشفافية مع هذا الواقع وبمسؤولية ايضا؟ للأسف ان الصورة تبدو على قدر كبير من التناقض مما يجعلها تحت دائرة الشك والضغوط المستمرة من جانب المجتمع الدولي! كان الرئيس البشير قد اعلن الشهر الماضي انه رفع الرقابة عن الصحافة، لكن المعلومات تؤكد ان بعضها قد اخضع للرقابة المباشرة مرة أخرى، في الوقت الذي اشاد فيه المجتمع الدولي بتلك الخطوة وهو بالطبع لا بد ان تستوقفه هذه الانتكاسة. ثانيا من غير اية اعتبارات اجرى البشير تعديلات في قانون الشرطة بمرسوم جمهوري مؤقت تعطي رجال الشرطة صلاحيات غير مسبوقة، وتمنع اية مساءلة لهم في اي عمل يقومون به الا بإذن من رئيس الجمهوية! مما اعتبره المدعي العام السابق مخالفة غليظة جدا للواقع الدستوري، ووصف تلك التعديلات بأنها باطلة، مستغربا ان يكون من حق رئيس القضاء رفع الحصانة عن اي قاض بينما يرتفع سقف حصانة رجل الشرطة الى مستوى رئيس الجمهورية مع ان جهاز الشرطة ليس جهازا عدليا.. واعتبرت المعارضة ان هذه التعديلات تمكن الشرطة من اعتقال اي شخص معارض من دون علم النيابة، وان الحكومة بهذا القانون تزيد من انتهاكاتها لحقوق الانسان. وتساءل احد رجال القانون: متى كانت التظاهرات في السودان تخرج باذن الشرطة؟ وكيف يمنح ضابط الشرطة حق استعمال السلاح الناري منفردا من دون الحصول على اذن ومراقبة من السلطة القضائية التي لها حق تقدير الموقف؟ وبالرغم من هذا القانون السيئ الصيت والذي لا بد ان يشكك المجتمع الدولي في مصداقية النظام، فإن تأكيد اصرار وزير الداخلية على منع سفر قطبين من أقطاب التجمع المعارض لحضور اجتماع في القاهرة يتعلق ببحث التحضيرات المتعلقة بعقد مؤتمر للوفاق، يقدح ايضا في جدية مصداقية النظام في البحث عن السلام والوفاق، فضلا على ان حق التنقل بالنسبة للمواطنين هو من صميم حقوق الانسان في اي مجتمع يزعم انه يحترم حقوق الانسان. وتكرار هذا الموقف من وزير الداخلية جعل قيادة التجمع المعارض تعود للتمسك بانفاذ مطالبها بتهيئة الاجواء التي تشمل اطلاق سراح المعتقلين والغاء القوانين المقيدة للحريات ورفع حالة الطوارئ وهي مطالب كانت قد سكتت عنها وقبلت التفاوض مع الخرطوم قبل تحقيقها! كذلك اصدر الاتحاد النسائي المعارض في الخرطوم بيانا يطالب الحكومة بوقف ملاحقة الطالبات وجلدهن، وباعادة النساء المفصولات عن العمل والغاء حظر العمل للنساء في المحال العامة والمطاعم ومحطات البترول، وهي مطالب تشكل ادانة كبيرة للنظام في مجال انتهاكات حقوق الانسان وحقوق المرأة على وجه الخصوص.

واذا أخذنا في الاعتبار كل هذه النقاط مجتمعة مضافا اليها استمرار اعتقال د. الترابي لعام كامل بدون توجيه تهمة أو محاكمة، نجد ان كفة التراجع في ميزان حقوق الانسان قد مالت كثيرا مما طفف النزر اليسير الذي قدمته الحكومة في مجال تلك الحقوق، وهذا ما سيؤدي الى انحدار علاقاتها الخارجية الى القاع مرة أخرى، خاصة مع الولايات المتحدة التي اثنى وزير خارجيتها على النظام مرة أخرى قبل ثلاثة أيام فقط حين قال: ان المسؤولين السودانيين بذلوا جهودا لا يستهان بها منذ اربعة أو خمسة أشهر لطرد المنظمات الارهابية من السودان والتعاون معنا في مجال الاستخبارات والشرطة. لكنه اتهم الحكومة بأنها ما زالت مسؤولة عن نشاطات جماعات ارهابية ما زالت في الخرطوم! ومع ذلك فإن ثناء باول لم يشبع نهم الولايات المتحدة من الاستزادة في مكافحة الارهاب، فها نحن نراها تلح في الطلب من النظام على الموافقة لفرض رقابة للتأكد من ان الحكومة لا يقصف طيرانها العسكري المدنيين ومناطقهم في الجنوب، مما يعني ان الثقة في التزام الحكومة غير متوافرة. لكن الحكومة برفضها هذه الرقابة الدولية تثير شكوك وحفيظة الولايات المتحدة من جهة، وتبدو كأنها تناقض الموقف الذي قبلته في اطار اتفاقية جبال النوبة مع ان تجريد الحكومة من استخدام الطيران العسكري قد يجعل كفة قوات قرنق هي الارجح في ميادين القتال مع احتمال ان يثير هذا الموقف سخطا وتمردا في القوات المسلحة! معلوم ان المبعوث الامريكي مارس ضغوطا شديدة على الحكومة، خاصة وزير خارجية السودان الذي ذهب الى الولايات المتحدة في زيارة غير رسمية وانما لحضور «صلاة اعياد الشكر»، وهي زيارة تعتبرها الحكومة فرصة مناسبة لدعم التيار الذي يرى بعض الامل في التعامل معها. وفي كل الاحوال طالما اخذت تدور في الفلك الاميركي فينبغي عليها ان تتوقع المزيد من الضغوط والتنازلات، أولم يقل باول وهو قائد معسكر الحمائم في آخر تصريح له بعد الثناء على الحكومة، انها ما تزال مسؤولة عن نشاطات ارهابية هناك! بعد ان فعلت امريكا كل ما فعلت بالنظام ومبعوثها الرئاسي ما يزال يضغط ويتوعد، اذا بنا نفاجأ بتوني بلير يعلن في نيجيريا انه هو الآخر سيخصص مبعوثا له في السودان، وقال في خطاب في البرلمان النيجيري «هناك صراعان في افريقيا يمكن تحقيق السلام فيهما في حال كان هناك اهتمام عالمي بهما، وهما في منطقة البحيرات (الكنغو) وفي السودان»، واضاف هذه بلاد ضخمة وكلا البلدين في حجم أوروبا الغربية ولديهما موارد طبيعية تمكن من التنمية ومكافحة الفقر والصراع، اريد ان أعلن اليوم انني أنوي تعيين مبعوث خاص للعمل مع الآخرين في البحث عن السلام في السودان». ومع ملاحظة انه لم يعلن عن تعيين مبعوث خاص للكنغو ربط بين مبعوثه مع آخرين وغالبا يقصد الولايات المتحدة الامريكية. ولا يفوتنا ان نذكر ان بريطانيا قبل فترة وجيزة كانت قد اشرفت على اجتماع سري جمع عسكريين سودانيين سابقين وحاليين ومن الحكومة والحركة بهدف دراسة امكانية وقف اطلاق النار من الناحية العسكرية والفنية وكل ما يتعلق بفصل القوات المتحاربة وامكانية دمجها الى آخره، بدون الدخول في النواحي السياسية، وذلك بهدف التعجيل في الوصول الى السلام اذا ما تم الاتفاق لاحقاً على الجوانب السياسية، مما يعني ان بريطانيا ستلعب الدور الرئيسي في القضية السودانية. وهذا ما أشرنا اليه في هذه الصحيفة غير مرة، وانها بدأت القضية من آخرها وليس من أولها.

في كل الاحوال يبدو ان البريطانيين افضل من الامريكيين لأنهم إن لم يكونوا هم بالأساس سبب المشكلة عندما استعمروا السودان فإنهم ادرى بها من غيرهم واقدر على معالجتها ولو من باب التكفير عن الذنب كما كان يقول بعضهم في الماضي بعد ان شاهدوا ولمسوا فداحة ما حل بالسودانيين الذين يبادلونهم الاحترام والتقدير، وهم كانوا ونحسبهم ما زالوا من اكثر الدول حرصا على وحدة السودان ويحملون أجمل الانطباعات عنه.

وأخيرا ان كل ما اشيع عن ورقة امريكية تتضمن عشر نقاط لحل مشكلة السودان عن طريق نظامين في دولة كونفدرالية، لا اساس له من الصحة ونفته عدة جهات، بل ان وزيرة التنمية البريطانية في آخر تصريح لها قالت: ان امريكا ليست لديها خطة معدة للسودان. وطالما عجز السودانيون عن وضع خطة لحلحلة أزمة حكمهم فلا بأس من ان تكون بريطانية!