العدل وحده يشطب الإرهاب من خارطة العالم

TT

من المؤسف ان يقودنا تتبع أفكار وتطلعات الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش الاب، والرئيس الحالي جورج بوش الابن، إلى ملاحظة ان الابن مثل ابيه يعتقد انه القائد الجنوبي روبرت لي، الذي كاد يهزم الشمال الأميركي اثناء الحرب الاهلية في منتصف القرن التاسع عشر. كان روبرت لي يربح المعركة تلو الاخرى الى ان عين الرئيس ابراهام لنكولن الجنرال غرانت قائدا للشماليين وكسر شوكة الجنوب، فاطلق لنكولن تصريحه الشهير حول تحرير كافة العبيد، ومن وقتها فقط تساوى الشمال الأميركي بالجنوب، والاسود بالابيض.

ومن المؤسف ثانية، ان الرئيس جورج بوش الابن، مثله مثل والده، يعتقد ان الولايات المتحدة الأميركية هي الاول وهي الآخر، ولوالده تصريح شهير بهذا المعنى حيث قال ذات يوم «ان اميركا يجب ان تكون قبل الآخرين».

ومن حسن الطالع، ان الأميركيين يبدون من النظرة الاولى شعبا مرتاحا، بسيطا، واحيانا ساذجا، لكنها مظاهر خارجية فقط، والدليل على ذلك، ان جورج بوش الاب، الذي خاض حرب الخليج وربحها (1991) نال تأييد الأميركيين باكثر من 80 في المائة. وما ان جاء وقت الانتخابات الرئاسية، حتى وجد نفسه خاسرا ومهزوما أمام كلينتون. ويكمن سبب هزيمة الأب في تقديمه اميركا على انها الدولة التي يجب ان تقهر الآخرين في الحرب والسلم. وبما ان اميركا دولة مصالح، اي دولة تتعامل تجاريا ومصلحيا مع الآخرين، كي تأكل خبزها وتعيش في بحبوحة، فقد وجد الناخبون انفسهم يصوتون للمصلحة، وليس للشخص الذي وضع المصلحة الأميركية في غير موضعها الصحيح.

وها هو بوش الابن يكرر الخطأ ذاته. فهو اولا، يظن انه خرج منتصرا من حرب افغانستان وهزم الارهاب وحطمه، وهذا غير صحيح بشهادة المسؤولين الأميركيين انفسهم.

وهو ثانيا، يمارس على اوروبا دور المعلم، واوروبا ليست قاصرة حتى حين تلتزم الهدوء والانتظار، بل هي «معلمة» ايضا في كل ما يملكه بوش من حرية وديمقراطية وحضارة.

وهو ثالثا: يخلط، عن سابق تصور وتصميم، بين الارهاب والكفاح من اجل الحرية، أي انه يساوي بين الحرية والعبودية. وهذا ايضا لا يدل إلا على قصر نظر وعدم استيعاب للتاريخ والمثل والسياسة والدبلوماسية معا. فالقرار 242 مثلا، وهو الذي ايدته واشنطن منذ صدوره في نوفمبر 1967 يعتبر الاراضي، التي اجتاحها الجيش الاسرائيلي اثناء حرب 1967، اراضي محتلة. والقانون الدولي، والشرعية الدولية، واتفاقات جنيف تقر بحق الشعوب الخاضعة للاحتلال في النضال بكل ما لديها من وسائل لرفع الاحتلال عن كاهلها.

فكيف يمكن تفسير اندفاع الرئيس بوش نحو تأييد المحتل، واتهام الفلسطيني الخاضع للاحتلال، واللبناني والسوري، بأنهم أرهابيون؟

ان منطق الامور، يدفعنا الى الاعتقاد بجزم، بأن الرئيس جورج بوش الابن انما يقوم بتحريض شارون على الفلسطينيين من جهة، وتحريض الفلسطينيين على شارون واسرائيل من جهة ثانية لغاية في نفسه، إما بسبب جهل مطبق بمجريات الصراع أو لاطالة امد الصراع العربي ـ الاسرائيلي الى زمن آخر، وحكم آخر ورئيس اميركي آخر، ايضاً.

فهو عندما يؤيد شارون دون تحفظ، ويتهم عرفات بالوقوف وراء الارهاب الفلسطيني ودعمه، انما هو في واقع الامر يدفع بشارون الى استخدام المزيد من العنف، ويدفع بالفلسطينيين الى مزيد من الاستعداد للرد على العنف بعنف آخر. فلو نحن قلبنا المعادلة التي يستخدمها بوش بحيث يعلن غدا ان على شارون ان ينسحب ويخضع للقرارات الدولية ويوقف ارهابه، وان الثورة الفلسطينية حركة مشروعة فهو يكون بذلك قد فعل الشيء نفسه اي انه حرض الفلسطينيين على العنف، وحرض شارون على الرد بأعنف.

ولذلك، يبدو منطق الرئيس بوش، منطق السياسي قليل الخبرة الذي لم يعد يهمه مستقبل بلاده ومستقبل شعبه الذي لا يستطيع ان يعيش محاطا بالاعداء والخصوم من كل الجهات.

ومن المؤسف مرة اخرى ان الرئيس جورج بوش الابن، لم يعد ينظر الى العالم من حوله الا بمنظار الرجل المستقوي الرافض كل منطق وكل حقيقة.

ان ما تقوم به ادارة بوش قد يضع مصالح الولايات المتحدة الأميركية برمتها على كف مجهول، ومن المفيد التأكيد لواشنطن باستمرار ان العرب لم يكونوا في يوم من الايام اعداء لها حتى يعاملون بمثل هذه القسوة.

فإذا كانت اميركا في السابق، واليوم، حليفة المستضعفين في الارض، فإن الشعب الفلسطيني هو الآن، اكثر شعوب الارض قاطبة، في حاجة اليها، والى افكارها التحريرية. وقد كانت واشنطن اول من رفض الانتداب البريطاني على فلسطين، والرئيس ولسون هو الذي اقترح، ثم شكل لجنة لزيارة الدول العربية التي كانت تبحث عن تحررها من الاستعمار العثماني برئاسة صديقه (كريان) سنة 1919.

اميركا دولة مصلحة ومصالح ولم تكن تعيش في هذه البحبوحة لولا خيرات العرب، واسواقهم التي فتحت لها ولم تغلق في وجهها في أسوأ الظروف، وتراجع مستوى العلاقات.

انه لمن سوء الطالع ان يجر الرئيس الأميركي بلاده في هذه الاتجاهات. ولكن ما دامت اميركا هي ام العلم والتكنولوجيا، فالاجدر بادارة بوش ان تتساءل حقا ما اذا كان الرئيس قد انتصر على الارهاب فعلاً؟ ام ان الارهاب ابعد نفسه عن نار اميركا بانتظار فرصة اخرى؟ وما اذا كانت مواقف بوش اخافت العرب ام انهم انحنوا امام العاصفة، وسوف ينهضون غدا على عاداتهم دائما، فيمسكون بعصب الاقتصاد الدولي ويردون على التحدي، ثم هل ان ما فعله الرئيس بوش سينقذ الاقتصاد الأميركي حقا، ام سيدفع به الى مزيد من الضعف؟

وهل يكون غلق الباب على اموال العرب في البنوك الأميركية، تصرفاً ديمقراطياً ام مخالفاً لابسط قوانين المال، والاقتصاد والتجارة الحرة؟ وهل يستطيع الرئيس بوش فعلا، ان يستغني عن العرب وما عندهم وما معهم وما يملكون من مال ومكانة وقدرات تاريخية واستراتيجية؟

ـ والى متى؟

اننا ننظر الى شعب الولايات المتحدة بعين الاعجاب ونرى ديمقراطيتهم امرا مغريا ودماثة اخلاقهم صفات حلوة. لكننا نتساءل عما حل بهذه البلاد العظيمة التي تبدو وكأنها مهزومة امام الضغط اليهودي الذي أفاد من عثرة اميركا المالية في ظل الصراع بين الصقور والحمائم داخل البيت الأبيض، وعلى اطرافه وبعيدا منه؟

عسى ان يكون ما نراه سحابة صيف بدأت في 11 سبتمبر بمعرفة المرتكبين ومعاقبتهم. وعسى ان يدرك الرئيس الأميركي بوش، ان السلاح الأميركي يقضي فقط على عشرة في المائة من الارهاب والتسعون الباقية بيد العرب الذين لم يطلبوا شيئا سوى العدل، الذي هو نقيض الارهاب وقاتله الاوحد.