إسرائيل وأولوية القوة في استراتيجيات الحرب والسلام

TT

يرتبط الأمن بتعزيز قوة الدولة، وكلما كانت قوة الدولة أكبر كان أمنها أكثر استقراراً. هذه هي المعادلة التقليدية لتحقيق الدول لأمنها، ولكن هذه المعادلة تصح على الدول التي نشأت بصورة طبيعية، أما إسرائيل، التي ولدت في سياق مختلف عن التطور الطبيعي للدول، وفي ظل صراع مع المنطقة التي ولدت فيها، فإن انجازها للتفوق الكبير لم يمنحها الأمن، بقدر ما كان عاملاً من عوامل عدم الاستقرار في المنطقة. وبالتالي عدم الاستقرار لاسرائيل، التي ما تزال رغم التفوق الذي أنجزته، تشعر بالتهديد الجدي لوجودها. تهديد يأتيها من عدة مصادر، سواء من داخلها ، من خلال الأقلية الفلسطينية التي صمدت داخل اسرائيل، أو من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، أو من المحيط العربي على الرغم من الضعف الذي يعاني منه هذا المحيط. منذ ولادتها بقي هاجس الأمن هو الطاغي على وجود إسرائيل، وعندما دفعت التحولات التي شهدها العالم والمنطقة، في بداية عقد التسعينات، إسرائيل لدخول عملية التسوية في مدريد، عام 1991، تحت شعار «الأرض مقابل السلام»، بقي هاجس الامن على حاله، ما جعل الهدف الاسرائيلي من وراء كل العملية، يتمحور في كيفية تحويل الانتصار الاسرائيلي الى واقع حال، في المنطقة، باقرار فلسطيني وعربي، وبالتالي، وضع كل المنطقة في شبكة من العلاقات الأمنية تكون اسرائيل مرجعيتها. ولم يكن الأساس الذي استندت اليه اسرائيل في عملية التسوية، يقوم على الاعتراف بالظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني جراء احتلالها لأراضيه، وعلى الاعتراف بحقوق هذا الشعب في تقرير مصيره في أقل من ربع أرضه التاريخية وتصفية الاحتلال. فالتصور الاسرائيلي، كما أسفر عنه عقد من المفاوضات، قام على أساس تحويل الاحتلال الى احتلال مريح، احتلال من الخارج، حسب صيغة اسحاق رابين رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق، وتحويل الأرض الفلسطينية الى حديقة خلفية لاسرائيل. ما يعني أن عملية التسوية كلها كانت تهدف حسب هذا المنطق ـ بشكل فج ـ الى تشريع الاحتلال بموافقة فلسطينية وعربية، وهو ما لم تنجح به على مستوى الشرعية الدولية، ما جعلها تستبعد هذه الشرعية من أن تكون أساس عملية التسوية. وإذا كانت الاتفاقات الانتقالية، بين إسرائيل والفلسطينيين، قد أخفت إلى حد ما هذه النظرة الإسرائيلية، فإنه مع استحقاقات مفاوضات الحل النهائي، التي ناقشت القضايا التي تشكل جوهر الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بات واضحاً أن الموقف الإسرائيلي من عملية التسوية المطلوبة هو الإقرار بالشروط الإسرائيلية من قبل الجميع في المنطقة. وبحكم اختلاف هذه القضايا عن قضايا الحل الانتقالي، فإنها ستعطي الصورة الأخيرة للحل في المنطقة. هذه الصورة تريدها إسرائيل وفق الاملاءات التي تحاول تمريرها، على أساس أنها القوة القادرة على فرض شروطها على المنطقة، وأن على الآخرين أن يقبلوا ما تقدمه او تعرضه عليهم، أو البقاء تحت تهديد قوتها. ولأن كل مشروع التسوية تمت صياغته، منذ مؤتمر مدريد للسلام، على أساس إنهاء هذا الصراع بشكل نهائي، فإن نتائج هذه التسوية يجب أن تكون عادلة ومتوازنة وشاملة، ولكن هذا آخر ما تفكر به إسرائيل. مشكلة إسرائيل مع عملية التسوية أنها تتعاطى معها بوصفها قضية إسرائيلية داخلية، أي أن نتائج المفاوضات تحسم في النقاش الداخلي الإسرائيلي، وليس مع الشركاء العرب في العملية. وهذا السلوك يستند إلى اعتبار إسرائيل نفسها المتحكم بعملية السلام والقادرة على فرض شروطها. لذلك قامت في كل مرة بإعادة التفاوض مع الطرف الفلسطيني على قضايا تم توقيع اتفاقات بشأنها على مدار عقد من المفاوضات، مستندة بذلك إلى تفوقها في مجال القوة، من خلال استمرار تعزيزها للفارق النوعي بينها وبين العرب في مجال القدرة العسكرية. ترافقت عملية المفاوضات الإسرائيلية ـ العربية مع مجموعة من التحولات داخل المجتمع الإسرائيلي، جعلت عملية اتخاذ قرار حاسم بشأن عملية التسوية أكثر صعوبة. فقد تشظت الساحة السياسية إلى عدد أكبر من الأحزاب، وجرت عملية «أمركة» للمجتمع الإسرائيلي، بزيادة طبيعته الاستهلاكية، وخصخصة القطاع العام، وازدياد اعتماد السياسة الإسرائيلية على دور الفرد النجم. وتم التعاطي مع هذه العوامل من قبل النخبة السياسية الإسرائيلية، على أساس أن المجتمع الإسرائيلي يفرض على نخبته السياسية خطوطاً حمر للتنازلات السياسية، وعلى النخبة الإسرائيلية أن تتكيف مع غرائز الجمهور. هذه الخطوط الحمر التي تدعيها النخبة السياسية، تحاول تسويقها على مسارات التفاوض مع الأطراف العربية على أساس أنها سقف التنازلات الإسرائيلية التي تحتاج إلى تنازلات مؤلمة من الطرف الآخر لإنجاح العملية، ويصبح على الآخرين دفع ثمن السلام حسب هذا المنطق. فمثل شارون صارخ في هذا المجال، فقد اعتبر أن «التنازلات السخية» التي قدمها أيهود باراك مرفوضة من الشارع الإسرائيلي، وأن على الفلسطينيين أن ينسوا ما تم تقديمه لهم في كامب ديفيد. فبعد أن وعد بارك بتقديم 90 في المائة من الأراضي الفلسطينية، جاء شارون ليقول إن ما لدي هو 40 في المائة فقط، وفي الحالتين كان المنطق الإسرائيلي يقول: إما أن تقبلوا وإما أن تقولوا لعملية التسوية وداعاً. إحساس إسرائيل بتفردها بالقوة في المنطقة جعلها لا تتعجل عملية التسوية، على اعتبار أن الطرف الآخر ـ الفلسطيني ـ غير ناضج لتسوية، طالما أنه لا يريد أن يقدم تنازلات. وأخذ الجدل الداخلي في إسرائيل يتصاعد حول قضايا التسوية وعلمانية الدولة وصهيونيتها..وغير ذلك. وقرأ بعض الكتاب العرب في هذا الجدل، المتصاعد، مؤشر ضعف يعتري إسرائيل كدولة، ويدفعها إلى التفكك والحرب الأهلية الداخلية، استناداً إلى استنتاجات لكتاب إسرائيليين حذروا من دخول إسرائيل دوامة الحرب الأهلية من بوابة الانقسامات الداخلية الاثنية والعلمانية الدينية وغيرها. ولا شك بأن مثل هذه القراءة، مبالغ فيه، وينطوي على استنتاجات متسرعة لواقع الانقسام والصراعات داخل إسرائيل. وهذا لا يعني أن إسرائيل لا تعاني من أزمات، ولكن الانتقال من هذه الأزمات إلى الحكم بأن الدولة في طريقها إلى التفكك، يذهب بعيداً عن آليات التحول في المجتمع الإسرائيلي وفي تعامله مع المنطقة. وإن ما يجري في إسرائيل من أزمات هو تعبير عن إعادة صياغة آليات المجتمع، واستيعاب التلاوين التي تفرزها الساحة السياسية الإسرائيلية ضمن اللعبة الديمقراطية التي يصيغ المجتمع الإسرائيلي من خلالها آليات دمج الاتجاهات الجديدة في ساحته السياسية. لكن القوة التي أعطتها المرونة في التعامل مع القضايا الداخلية الإسرائيلية، كانت ذاتها المبرر الإسرائيلي لعدم تقديم التنازلات إلى الأطراف العربية، خاصة الطرف الفلسطيني، وفرصة لتنجز «سلاماً» وفق شروطها التعجيزية، تقضم بموجبه الأرض الفلسطينية، وتملي شروطها على المنطقة. لا يمكن رؤية الوضع القائم في إسرائيل والتعاطي مع عملية المفاوضات بناء على المعطيات السياسية القائمة في إسرائيل اليوم، فما يجري اليوم هو نتاج صراع إسرائيلي مع المنطقة امتد قرناً كاملاً، ويحمل ذاكرة لا يمكن تجاوزها بتوقيع عدة أوراق تدعى «اتفاقات سلام». وهذا الصراع انطلق من الأرض التي شكلت المحور الرئيسي للصراع، وإذا كانت فلسطين الأرض التي استهدفها المشروع الصهيوني، كمشروع استيطاني إجلائي، فإن عدوانية هذا المشروع تتجاوز الأرض الفلسطينية وتستهدف جميع دول المنطقة. وبحكم هذه الطبيعة وضع المشروع الصهيوني حركته على قاعدة الاملاءات التي تناسبه والتي على الآخرين قبولها بأي شكل من الأشكال، ولا يمكن فرض هكذا وضع سوى في سياق هيمنة القوة الإسرائيلية وكسر شوكة الآخرين. فكانت آليات ولادة دولة إسرائيل تقوم على إقامة جدار من الكراهية مع المنطقة تحميه آلة حربية قوية. انطلق تعامل إسرائيل مع التسوية من موقع القوة الساعية إلى تكريس احتلالها للأراضي الفلسطينية وتوظيف القوة إلى حدها الأقصى، بالسعي الوقح إلى اعتراف فلسطيني وعربي بالشروط والاملاءات الإسرائيلية التي تسعى الاتجاهات الإسرائيلية إلى تكريسها. وبذلك تبقى عقلية الاحتلال هي التي تحكم السياسة الإسرائيلية، وتسود هذه العقلية فكرة أنه طالما أننا نملك القوة، يمكننا فرض الوقائع على الأرض مرة أخرى، كما فرضناها في عام 1948، ولكن هذه المرة تريد إسرائيل أن يكون هذا التكريس بموافقة الشعب الفلسطيني، هذا هو «السلام» الذي تريده إسرائيل للمنطقة، وهو سلام ميت قبل أن يولد.

* كاتبة فلسطينية