كردوفوبيا في أنقرة

TT

تمتلئ صفحات الرأي في الصحف التركية بمقالات يكتبها كبار المحللين والأكاديميين والسياسيين الأتراك تدعو الى «تغيير العقلية التركية».

هؤلاء الكتاب يذكرون اسباباً عديدة في هذا الشأن يمكن اجمالها في مسألتين:

الأولى ازدياد الضغوط الخارجية (الغربية بصورة عامة والأوروبية على وجه الخصوص) على تركيا من أجل التغيير، خاصة ان شعبها المسلم يمكن ان يقوم بدور الجسر بين العالم الاسلامي والغرب.

والثانية الشعور المتزايد لدى الاتراك انفسهم بأن دولتهم ونظامها الشديد المركزية، و«طريقتهم التركية» أوصلتهم الى طريق مسدود.

لا يحتاج المرء الى ان يكون خبيرا في الشؤون الاستراتيجية لكي يدرك اهمية تركيا سواء كان ذلك اثناء الحرب الباردة، أو بعد ان اصبحت الولايات المتحدة القوة الأعظم الوحيدة في العالم، فالقاء نظرة عاجلة على خارطة العالم تكفي لأن يوافق الآخرون الاتراك على اهمية موقع بلادهم، بل وتنوع جمالها ايضا. جاءت العمليات الارهابية في 11 سبتمبر (ايلول) الماضي لتزيد من اهمية هذا البلد الكبير بامكانياته وتجربته التاريخية. كانت تركيا قد اعلنت نظامها العلماني منذ حوالي الثمانية عقود. وشجعت الدولة مواطنيها على التوجه نحو الغرب في طريقة الحياة ولو بشكل غلبت عليه السطحية على عملية التثاقف الاكثر عمقا وشمولية.

وخلال تلك العقود كلها عملت النخب الحاكمة في انقرة، على ترسيخ ايديولوجية «الدولتية»، أي اعطاء الاهمية القصوى للدولة، بل واضفاء صفة القدسية عليها بتحريم المساس بها وبمؤسساتها، خاصة الجيش، فجيش الجمهورية، بمقامه الابوي وتقاليده الاتاتوركية، لا يمكن التعرض له بأي حال من الأحوال.

الدولة في هذه الحال، معصومة عن الخطأ والخطأ في المواطنين وليس في الدولة وسلطاتها التي تحمي الشعب وتسهر على أمنهم من الاعداء. الدولة، دائما، على حق.

يكمل هذه الفلسفة الدولتية، جانبها القومي، فبالرغم من وجود قوميات واقليات اثنية غير تركية، في الجمهورية، إلا ان مقولة أتاتورك المنقوشة بشكل بارز في كل مكان، بل بطريقة استفزازية على الجبال والطرق في المدن الكردية والتي تقول: «سعيد من يقول انه تركي» تلخص النظرة القومية هذه.

كانت للضابط مصطفى كمال أفضال كثيرة في تحديث تركيا، خاصة في ما يتعلق بحقوق النساء وتحررهن، إلا ان طبيعته العسكرية وايمانه بالمركزية المطلقة، طبعت جمهوريته بطابع استبدادي صارم وحازم. وبدا ان على الشعب التركي ان يعيش حياته في ثكنة عسكرية يتلقى فيها الأوامر، بل يسعد بتنفيذها جيدا.

وبسبب القوانين التي تنزل العقوبة بأي كاتب أو مواطن بتهمة «العداء للدولة» أو «نشر الأفكار الانفصالية» فإنه يصعب على الاكاديميين والمثقفين أو المعارضين السياسيين أن يضعوا النقاط على الحروف ومعالجة بيت الداء في النظام التركي المريض.

وكما كانت تركيا بحاجة الى الاصلاحات الجذرية، في بداية القرن الماضي، لتتلاءم مع عصرها، فهي بحاجة اليها اليوم في مطلع القرن الحادي والعشرين ولنفس السبب ايضاً.

قائمة الاصلاحات في تركيا طويلة وعلى رأس هذه القائمة الموضوع الكردي. وكانت نصيحة أوروبا لتركيا من أجل الدخول الى الاتحاد الأوروبي واضحة «من يريد الدخول الى النادي الأوروبي يجب ان تتوفر فيه شروط العضوية».

وبداية الشروط هي ضمان حقوق الانسان والديمقراطية وهي شروط لم تتوفر لتركيا حتى الآن.

ففي تركيا يعتبر جريمة ان يتعلم الكردي لغته الأم، بينما توجد في المدن الأوروبية آلاف المدارس المخصصة للجاليات المهاجرة من تركية وعربية وكردية ومئات اللغات الأخرى بما فيها لغات الغجر! العقيدة المركزية للدولتية التركية تمنع ذلك لكي لا تنفرط مسبحة الدولة. والعسكر هو الذي يحمي هذا التماسك الظاهري بينما لا يعترف إلا بالعنصر التركي ويلغي وجود الاثنيات الأخرى، ولا يريد ان ينظر حواليه ليرى وجود شعب آخر مختلف.

إن الهاجس الكردي يعيق تقدم تركيا الى الامام الى حد يثير شفقة أو سخرية الاوروبيين ويجعلهم أكثر اصراراً على وجوب احترام الدولة لحقوق مواطنيها قبل فتح ابواب الاتحاد الأوروبي أمامها. هذا الهاجس، لا ينحصر داخل حدود تركيا فحسب، بل يتعداها الى دول الجوار، خاصة العراق، بحيث يمكن تسميته بـ (الكردوفوبيا) التركية. وهذا ما يفسر وقوف تركيا حائرة وقلقة ومتشنجة ازاء ما يمكن ان يحدث في العراق وتداعيات ذلك بالنسبة للاقليم الكردي.

كان على تركيا مساعدة اكراد العراق في تطوير ادارتهم واجراء الاصلاحات الديمقراطية فيها، خاصة ان هناك اقلية تركمانية في كردستان العراق اصبحت لها احزابها وجمعياتها وصحافتها ومدارسها الخاصة بها. وكان يتعين عليها، حسبما تعلنه من حرصها على ازدهار الاقلية التركمانية، مساعدة الادارة الكردية في هذا الاتجاه.

إن الحقوق التي تتمتع بها الاقلية التركمانية في كردستان العراق، تبهر اكراد تركيا بينما لسان حالهم يقول: «اننا لا نطالب بأكثر من 1% من هذه الحقوق، وهذه النسبة هي فقط الاعتراف بوجودنا كشعب داخل دولة تركيا».

وحقيقة القول هي ان من يزور أربيل، عاصمة الاقليم الكردي العراقي، حيث تتمركز الجالية التركمانية في المناطق التي يسيطر عليها الاكراد (والتركمان يسكنون ايضا مناطق كركوك وتلعفر الواقعة تحت سيطرة الحكومة العراقية) لا يسعه إلا كيل المديح الى الادارة الكردية وهي تبذل الجهود في توسيع الاهتمام ليس بالتركمان فحسب، بل بالاقليات الاثنية والدينية من آشورية وكلدانية ويزيدية ايضا، وهي بهذا الصدد تشجع خطباء الجوامع بنشر ثقافة التسامح العرقي والديني والمذهبي.

يصدم المرء كيف ان دولة ورثت خبرة قرون من اللامركزية العثمانية والتسامح العرقي والديني، تتحول الى هذا القدر من اللاتسامح، لا بالنسبة لما يجوز أو لا يجوز لمواطنيها من قبيل بأية لغة يسمح لهم الغناء بها، بل ايضا عرقلة مساع في سبيل الاصلاحات والتغيير الديمقراطي في الاقليم الكردي العراقي المجاور لها.

أما تبرير كل هذه الأساليب بحجة الاستقرار، فإن أوروبا التي ترغب تركيا ان تصبح جزءا منها، ترفع رأسها لالقاء درس بليغ من خبرتها التي كلفتها حروبا قومية عديدة، باهظة ودموية، وكلفت العالم ايضا حربين عالميتين، والدرس هو ان الاستقرار ينبع من الاعتراف بالحقوق وترسيخ الحرية والديمقراطية. وما يمنع بناء الاستقرار هو الايديولوجيا القومية وشرورها، سواء جاءت هذه الايديولوجيا المعوقة، من بغداد أو من أنقرة.

# وزير كردي سابق رئيس «معهد العراق للديمقراطية» أربيل، العراق