بلابل ورمان من كابل

TT

«كانت هناك اشجار الاجاص (الكمثرى) والخوخ والمشمش والدراقن والتفاح والكرز والجوز والتوت والرمان والعنب. جميعها في مدينة كبستان كبير. وكانت هناك ايضا البلابل والعصافير السوداء والحمام والطيور المغردة على كل غصن».

اين هو هذا المكان؟ انه المدينة التي ادهشت الرحالة الكسندر بيرنز القادم من بخارى العام 1832. لكن هنا سوف ينسى سحر بخارى التي ظن ذات يوم انه لن يغادرها الى مكان. هنا، في هذه المدينة، شعر انه في مناخ الجنة «الحدائق الكثيرة واصوات الطيور والاشجار المثقلة بأحمال الثمر. ولكن اين نحن هنا؟ ما اسم هذا المكان؟ هل هو عنب الطائف ورمانها؟ هل هي بساتين حلب؟ ام بساتين طرابلس؟ ما هي المدينة التي يمكن ان تنسى من اجلها بخارى؟ انها لو تصدق، كابل، قبل قرن ونصف من اليوم، كابل قبل ان تصاب بمرض عراء الارض ومرض الجرود ومرض غياب البساتين وفرار البلابل وصمت التغريد.

تذكر الكسندر بيرنز وهو يهبط الى كابل، تذكر انكلترا، كما تذكر طبعا انه في مهمة سياسية. لكنه ما ان يقترب من سياسة كابل حتى يتبدى له الصراع على السلطة من كل صوب. الصراع في الداخل بين الرفاق والصراع في الخارج بين روسيا وبريطانيا. وكلما قرأت هذه الايام رسالة جديدة من صحافي يجول في افغانستان، اتساءل ماذا حدث لتلك المشاهد التي رآها المستر بيرنز. ماذا حدث لذلك البلبل المغرد الذي اخذه معه الى الهند لكنه لم يكن يدعه ينام الا اذ ابعده عن «مسافة السمع». هناك عشرات الصحافيين يجولون في بلاد «اللعبة الكبرى» اليوم، لكن رسائلهم خالية من المشاهد الملونة واللطائف. الا ربما صور اولئك الشبان التي نشرتها «النيويوركر» مأخوذة من محفوظات مصور سري ماهر في كابل. فهو لم يكن يلتقط الصور بعيدا عن اعين الملا عمر فحسب، بل كان ماهرا في ادخال التعديلات عليها وفي ابراز الرموش وفقا لرغبة صاحبها، وكان يجعل جميع العيون خضراء اللون كمثل عيني «بلقيس» في قصائد نزار في زوجته.

ويروي الاخضر الابراهيمي في جلسات خاصة كيف انقذ الوضع الديبلوماسي بسبب صورة لمحمد علي جناح، مؤسس باكستان ورمز استقلالها. ففي خلال لقاء مع الملا عمر في مقر باكستاني رسمي، رأى الملا عمر صورة محمد علي جناح معلقة في صدر القاعة، فرفض الدخول في اي محادثة اذا لم تنزل عن الجدار. وغضب الباكستانيون، اذ كيف يتخلون عن رمز الامة بناء لطلب اي كان. وفي النهاية اقترح الابراهيمي ان تغطى الصورة بقطعة من القماش من دون ان تنزل عن الجدار. وهكذا حلت القضية وحافظت باكستان على صورة الرجل الذي ابتناها دولة مستقلة من صلب شبه القارة الهندية.

لا ذكر للخضرة في افغانستان في الرسائل الصحافية هذه الايام. انهم رحالة العصر، هؤلاء الصحافيون، يكتبون ويقتلون ويخطفون ويجوبون البراري في حماية القبائل و«لقاء ثمن» تماما كما فعل المستر بيرنز. وتروي زميلتنا العزيزة هدى الحسيني ذكريات رحلة الى افغانستان قبل اعوام قليلة، كانت «تباع» خلالها الفرقة الصحافية المستقلة، من حاجز الى حاجز. وكان ثمن الفرقة التي تنتمي اليها هدى ضئيلا: «انهم مجرد مجموعة من عرب الصحافة».