العالم العربي وموسم الانتخابات

TT

خلال العام المقبل وما حوله ستجري العديد من الدول العربية عددا من الاستفتاءات والانتخابات العامة التي يصفها زعماؤها بانها محاولة لنقل هذه الدول الى الديمقراطية على الطريقة الغربية. وهذه العملية ستبدأ بتوجه الجزائريين الى صناديق الاقتراع خلال شهر يونيو المقبل، وسيتبعهم الاردنيون أواخر هذا العام، وفي ما بعد سنشهد انتخابات عامة في المغرب، تتبعها انتخابات نيابية في الكويت، وفي الوقت نفسه يتوقع ان تشهد البحرين وقطر استفتاءات بشأن اقامة انظمة ملكية دستورية، تعقبها انتخابات نيابية.

بعض هذه الانتخابات ستتم بحضور مراقبين دوليين، ويتوقع ان يقوم الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر بدور مهم في الاشراف على جهود المراقبة.

هذه التطورات الاخيرة استرعت بعض الاهتمام في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة، حيث اعتبرت «نيويورك تايمز» ان العالم سيشهد «بروز مجموعة جديدة من الديمقراطيات» في العالم العربي. وخلال الشهر الماضي كان عدد من الزعماء العرب بمن فيهم عاهل الاردن وولي عهد البحرين ووزير خارجية قطر، يقومون بزيارات للويات المتحدة للترويج للاتجاه الجديد باعتباره عاملا مهما الى حد كبير في شؤون منطقة الشرق الاوسط.

على ان الايام المقبلة ستكون شاهدا على مدى جدية كل هذا أو هزليته. وسيكون من الخطأ التقليل من أهمية مساعي هذه الدول المتعلقة بتجربة افكار واساليب جديدة. لكن سيكون من الخطأ ايضا تبني فكرة ان مجرد اجراء الانتخابات يعني الاتجاه نحو الديمقراطية.

ويعلم دارسو العلوم السياسية انه بينما لا تتوفر ديمقراطية بدون انتخابات، يمكن ان تكون هناك انتخابات بدون ديمقراطية. فالاتحاد السوفياتي السابق كان قد جرّب طوال ما يقرب من ثمانين عاماً جميع انواع الانتخابات. وحتى كوريا الشمالية تتم فيها انتخابات يحصل خلالها «الزعيم العزيز» كيم الاصغر في العادة على 100 في المائة من الاصوات.

واجراء انتخابات ليس شيئا جديدا في العالم الاسلامي. اذ ان ايران شهدت طوال الاعوام المائة السابقة العديد من الانتخابات ابان عهدين مختلفين وفي عهد الجمهورية الاسلامية الحالية. وفي مصر ايضا جرى عدد من الانتخابات ابتداء من عشرينات القرن الماضي وحتى انقلاب عام 1952، تماما كما فعل العراق قبل عام 1958، لكن أياً من تلك الانتخابات لم تؤد الى تغيير في الحكومة أو في السياسات الرئيسية، فما بالكم بالنظام الحاكم؟

الى حد كبير كانت تلك الانتخابات عبارة عن استفتاءات اريد منها اظهار التأييد العام للوضع القائم. وفي كل مرة كانت الانتخابات تثير قلق الوضع القائم، الى ان تدخلت القوات المسلحة لاعتراض العملية الديمقراطية أو لالغاء النتائج. (وبشكل عام في العالم الاسلامي فقد حدث ذلك ثلاث مرات في تركيا منذ عام 1960، وخمس مرات في باكستان منذ عام 1947، ومرة في الجزائر عام 1991). فالآلية الرئيسية لإحداث تغيير كبير في سياسات معظم الدول الاسلامية، خاصة العربية، ما تزال تتمثل إما في انقلاب عسكري، أو كما حدث في ايران، ثورة شعبية عارمة.

والعزف على وتر الديمقراطية من أجل ارضاء الغرب أو لانها ببساطة اصبحت موضة، قد يجعل الامر خطيرا بالنسبة لبعض المجتمعات المعنية على الأقل، وهو ايضا قد يؤثر في الآفاق المستقبلية للتطور السياسي في الدول العربية اجمالا.

لعقود طويلة عانى العرب من التشبه السياسي، المصحوب في الغالب بأفكار منقولة من الغرب. فخلال الحرب العالمية الأولى شجعت بريطانيا مفهوم العروبة المبني على فكرة القومية التي سادت حينها في أوروبا، وذلك من أجل تحفيز العرب ضد الامبراطورية العثمانية. وتم اقناع زعماء العشائر الذين لم يكونوا على علم بالقومية على الطريقة الاوروبية، بالقيام بدور الزعماء العرب، تمهيدا لتسليمهم مساحات من الارض اطلق عليها دول، بحيث يكونون حكامها، حتى ان البعض منهم لم يكونوا قد عاشوا في تلك الاراضي من قبل.

حينها انقلبت فكرة العروبة على من شجع عليها، وهي بريطانيا العظمى وعلى الغرب بشكل عام. (ونفس المنوال حدث في مفهوم التركية والايرانية).

وخلال العقود الزمنية اللاحقة قام بعض الزعماء العرب وبعض الحركات السياسية باجراء تجارب لبعض الافكار والاساليب الغربية. واستولى بعض العسكر على السلطة باسم القومية العربية، وقاموا بتأميم ما أمكنهم من اقتصاد بلدانهم. وقد شجع الغرب على نمو الاتجاهات الاسلامية على اساس انها ستواجه هذه الانظمة الجديدة، ومن الاتحاد السوفياتي، وحتى الثمانينات كانت ورقة الاسلاميين قد استخدمت من قبل العديد من الدول ضد اليسار بشكل عام. وقررت بعض الدول مثل الجزائر دعوة الواعظين الدينيين من مصر للتشجيع على الاسلام في مقابل الاتجاهات التحررية واليسارية التي سادت في اوساط الطبقة المتوسطة.

من المؤسف ان كل الافكار المستعارة تحولت الى سخرية بحد ذاتها، كما انها باتت بلا قيمة في عيون الجماهير العربية. لم يتمكن اي من الافكار المستعارة، من القومية العربية الى الاشتراكية الى الاسلمة السياسية، من ايجاد استراتيجية سياسية متماسكة، ومن اقامة حركة نزيهة ذات جذور عريقة. وهذه لم تكن مفاجأة على اعتبار ان الانظمة التي ارادت تجربة تلك الافكار لم تكن تنوي اقتسام أقل حصة من السلطة مع الجميع.

ونتيجة لذلك فقد بات من المستحيل كما يبدو اليوم، ان يحاول أي فرد تأسيس حركة سياسية نزيهة باسم أي من الافكار الغربية الرئيسية التي ظهرت خلال القرنين الماضيين، فالاشتراكية والقومية ونظرية التحرر واخيرا الاسلمة، فقدت جميعها مصداقيتها لانها طرحت من قبل طغاة ومغامرين وانتهازيين، وفي بعض الحالات من قبل ارهابيين على اختلاف مستوياتهم، وخلال اوقات مختلفة.

ويبدو ان أولئك الذين استوردوا أفكارا غربية قدموا لها قبلة الموت. ولا تعلم الجماهير كما لا تتوفر لها طرق معرفة، ان ما عرض عليها كان مزيفا، اذ لا يمكن لشخص لم ير في حياته جوهرة حقيقية ان يتمكن من التفريق بينها وبين ما يشبهها، والمحصلة النهائية هو ان العالم العربي والى حد ما العالم الاسلامي بأسره، اصبح الآن مغلقا أمام معظم أهم الافكار السياسية التي تبلورت منذ ما يسمى بعهد التنوير وما تلاه.

هل ستلقى آخر الأفكار المطروحة ـ والتي يطلق عليها الديمقراطية الالكترونية ـ نفس المصير؟ لا بد ان الخطر محتمل، اذ لا توجد ضمانات بأن أيا من الحكومات في «تجمع الديمقراطيات الناشئة» ستكون مستعدة لتعديل اي من سياساتها المبدئية. فما بالنا بتسليم السلطة، نتيجة لأي من الانتخابات العامة المزمع اجراؤها، وعلى أية حال فإن ذلك مستبعد منذ البداية لانه لا توجد قوى منظمة يمكنها عرض البدائل أمام الناخبين المتوقعين.

وفي الأساس فإن الناس قد يشاركون في التجربة الجديدة بحماس تماما كما فعلوا عندما عرضت عليهم تجارب القومية والاشتراكية والأسلمة. لكن الشعور بعدم الرضا قد يظهر بعد وقت ما. وسيذكِّر التعبير الفرنسي القائل «كلما أحدثت مزيدا من التغيير ظلت على حالها»، الناخبين ان مجرد وضع قطعة من الورق داخل صندوق الاقتراع لا تأثير له في واقع الحياة.

منذ فترة غير بعيدة شهد كاتب هذه السطور تجربة انتخابات في بلد عربي لا بد من عدم ذكره (واذا ما اشرنا اليه فقد يمنع تداول الجريدة كما قد يتعرض مراسلنا هناك للمضايقة).

في مركز اقتراع مساء تلك الانتخابات، عرض علينا المشرف نتائج التصويت بدلا من اعداد أولئك الذين يحق لهم التصويت. لقد ارتكب خطأ بسحبه للاوراق غير المطلوبة من درج مكتبه، كانت 24 ساعة مبكرة جدا بالنسبة لانتخابات رئاسية. وفي بلد آخر يفضل ايضا ان لا نذكر اسمه، لم نجد شخصاً واحداً أدلى بصوته لمرشح حقق فوزا ساحقاً، حتى اننا عرضنا مكافأة مغرية لمن يستطيع ان يعرض علينا اي شخص ادلى بصوته لصالح ذلك المنتصر. لكننا غادرنا ذلك البلد ونحن نحتفظ بالمكافأة.

التعلم من تجارب الآخرين السياسية التاريخية وحتى استعارة الافكار، لا يمكن ان يعتبر شيئا نخجل منه. وفي احوال عدة يعد شيئا ضروريا. فنحن لم نخترع العربات لكننا الآن نستخدمها بشكل واسع، رغم اننا ما زلنا اسوأ من يقود السيارات في العالم. ومع ذلك فكيف سيكون رد الفعل العام تجاه العربات الآلية اذا ما كانت الآن تستخدم ليس من أجل نقلك للأماكن التي ترغب فيها بل لسحبك لأماكن لا ترغب في الذهاب اليها! وهكذا أقول باخلاص: أرجو وأرجو ان لا تقوموا باجراء انتخابات اذا كنتم لا تقصدون بالفعل اداء اللعبة وفقا لقواعدها. أرجو ان لا تقللوا من اهمية فكرة غربية أخرى قد يتسنى للمسلمين عموما وللعرب على وجه الخصوص ذات يوم الاستفادة منها كوسيلة لتحقيق الغاية، وهي تتبنى برنامج تطوير نزيهاً. ولا يوجد ما يعيب عدم اجراء انتخابات في مجتمعات ما زالت، لسبب أو لآخر، غير مستعدة لمثل هذه التجارب. لكن من العيب اجراء انتخابات مزيفة.

فالديمقراطيات الغربية الاكثر تطورا شقت منذ وقت طويل طريقها المتعلق باشتراك العامة في صناعة القرار بما يتجاوز مجرد عملية الادلاء بالاصوات. وبينما يتواصل انخفاض اعداد الناخبين في معظم الديمقراطيات الغربية، يتم تبني اساليب أخرى لتقييم الاتجاه العام ولاقحام المزيد من الناس في المناقشات المتعلقة بالاوضاع العامة. وذلك ما يمكن الحديث عنه في مقال آخر.