الملكية والأحزاب والتغيير في المغرب

TT

تحدثت في مقالي السابق عن الفئات الأربع التي تتفاعل في اللعبة السياسية المغربية، في أفق الاستحقاقات المنتظرة، وقلت إن هناك أخذا وردا في ما بين قوى قائمة أو تلك التي ترشح نفسها لكي تلعب دورا ما في المدى القريب. ويتم ذلك في جو صحي قاعدته الشفافية وطرح الأفكار بوضوح، وهذا من مقومات كل تجربة ناضجة توجد فيها أطراف مؤهلة. وقلت إنه لا شيء يشوش على التجربة، بما في ذلك كثرة الأحزاب التي ستدخل المعترك، لأن الحكم في النهاية هو الناخب، فهو الذي سيعطي لكل فئة حجمها في الخريطة المقبلة.

لا يغادر خاطري، منظر المليونين الذين شيعوا جنازة الحسن الثاني، في جو مفعم بمشاعر التكريم لرجل أدى رسالته كما ظهر له، ومفعم بالتطلع في ثقة إلى استكمال المسيرة الجماعية للمغاربة، لكي ينتقلوا إلى دولة القانون، بخطو مطمئن واثق، في ظل خلفه الواعد بالحداثة والاندماج في الاقتصاد العالمي. إن ذلك دليل على وجود شعور عارم بالانتماء إلى كيان هو «إنتاج تام الصنع»، وليس مشروعا مطروحا للرهانات. وتلعب المؤسسة الملكية في هذا السياق دور الموجه والحكم، لقيادة التحول الذي انخرط فيه المغرب مع مطلع التسعينات. إنه ميثاق وطني جدي، وطويل النفس، يهدف إلى تأهيل المغرب لاكتساب مقومات اكتساب موقع في حلبة القرن الحادي والعشرين. في هذا السياق، فإن العاهل محمد السادس، يقول بكل أشكال التعبير إنه يكمل من حيث انتهى الحسن الثاني. لا مجال للبدء من جديد، لأنه ليس هناك فراغ. وجوهر الموقف حاليا هو أن صلاحيات التوجيه، يكفلها الدستور الجاري به العمل للملك، المجسم لاستمرار الدولة والمؤتمن على الحقوق.

عدم البدء إلى من الصفر، يعني أيضا أن مسلسل التسعينات، الذي أفضى إلي تفويت بعض الصلاحيات لفائدة دولة القانون، من المتوقع أن يستمر، أخذا بالنجاعة، ووصولا إلى الحداثة، وفي جو من السكينة المرتكزة على التوافق، أي أن الدولة ستربح كثيرا من الأشواط في مضمار التقدم، كلما ترسخ طابعها البرلماني. كما أن عدم البدء من الصفر، لا يعني الرجوع عما تم رسمه من توجهات، أو مجموع ما كانت تنم عنه روح التعديلات الدستورية والسياسية، التي تم الإقدام عليها. أما المقولات التي تصب في العودة إلى حكومات التقنوقراط، وتمييع الحياة السياسية بحجة إعادة هيكلة المشهد، وخلق قاعدة جديدة تكون سندا للعهد الجديد، فهي شيء أكثر من البدء من الصفر.

وجاء اعتماد الحكومة في الأسبوع الماضي، الاتجاه إلى الأخذ بنظام اللائحة، في الانتخابات القادمة، منسجما مع مطلبين، الأول هو القطع مع الوسائل القديمة في صنع الخريطة السياسية «المخدومة»، والثاني، هو تمكين المجتمع من إفراز اختياراته عبر الأحزاب، لأن نظام اللائحة، سيجعل المباراة جارية أساسا في ما بين البرامج والمشاريع، وليس بين أعيان السياسة، أو المغامرين الذين يقتحمون المجال لتجربة حظهم، أو لتكريس مصالح ذاتية.

لقد ظهر أن المقولة التي راجت في بعض الصحف بشأن تقادم المقاربات التي تطرحها الأحزاب «القديمة»، وفي بعض الأحيان راج كلام عن عجز تلك الأحزاب، وصعوبة تعايشها، ظهر أن تلك المقولات، ربما كانت على الأقل متسرعة. وقد كتب ان الأحزاب الديموقراطية قد «فقدت شرعيتها التاريخية». وفضلا عن كلام الصحف، ظهرت إغراءات للخروج عن النص. وهذا شيء يبقى محتملا من مصادر مختلفة، هنا وهناك، ولكن الخروج عن النص والعودة إلى القديم، لن تكون لهما إلا عواقب يرفضها المزاج المتكيف وفق الثقافة التي كرسها المسلسل. ومهما نسب للحكومة الحالية من عيوب تتعلق بالأسلوب، فإنها قد جدت لإبداء حسن الاستعداد، لبيان ان الممكن ممكن.

في استطلاع الرأي الذي استشهدت ببعض معطياته، في المقال السابق، ظهر أنه رغم كل المؤاخذات و حتى بعض التذمر من قلة مردودية حكومة التناوب، فإن رجل الشارع، حين يطلب منه أن يذكر أسماء أحزاب تخاطبه أسماؤها، فهو لا يخرج عن تلك الأحزاب «القديمة». ولا يعني هذا ركودا في المشهد السياسي المغربي، بقدر ما يعني أن هناك إدراكا لضرورة متابعة الإصلاح، وصولا إلى الغايات التي أشرنا إليها أعلاه. ولهذا جازفت، في الأسبوع الماضي، بالقول بأن الانتخابات المقبلة، ستكون بمثابة استفتاء. ذلك أن هناك مشروعا وطنيا أصيلا، كان عليه التوافق بين المؤسسة الملكية والحركة الديموقراطية في البلد، يرمي إلى إنشاء دولة عصرية ديموقراطية. وقد اعترت المسيرة نحو ذلك المشروع تعثرات، استمرت طويلا، أطول من اللازم. وها هي المسيرة الآن منطلقة في ثقة، وتبصر، بما يرافق ذلك من هواجس واختبارات. ولا يعني هذا البتة أن هناك توقفا في التاريخ، أو عودة إلى ماض، تجري تصفية حساباته في ما بين نفس الأطراف، فإن المشروع الوطني مطروح في قاعة عمليات جديدة، بأدوات متوافق عليها، اليوم، وليس في 1956، وفي ما بين أطراف لم تأت من متحف، بل من الواقع السائد اليوم، بمشاغله وتطلعاته.

ورد في الاستطلاع المذكور أن المواطن المغربي يشعر باقترابه من كل من الاتحاد الاشتراكي والاستقلال، على التتابع بنسبة 66 و65 في المائة. وتأتي بعدهما، بثلاثين نقطة، أحزاب مثل الحركة الشعبية بـ32، والتجمع الوطني للأحرار بـ29، والاتحاد الدستوري بـ28، والتقدم والاشتراكية بـ21، والحركة الشعبية الوطنية بـ18، والعدالة والتنمية بـ.12 وهذا ليس تفويضا لأسماء تجارية، بل هو تعبير عن التعلق ببرامج ورؤى هي التي تركز عليها تحرك مختلف الأطراف في العشرية الماضية. وكان ذلك في حد ذاته، استمرارا لتفاعل سياسي ملأ المشهد السياسي في المغرب لعدة عقود، ورسا على الاختيار الذي حدد الإطار للمسيرة الحالية، نحو مزيد من دولة القانون، ونحو التعامل في حظيرة المؤسسات، والتهيؤ للمهام التي تنتظر المغاربة في مفتتح الألفية الجديدة. هنا تطرح بقوة الأشياء، مسألة التغيير. التغيير نحو ماذا؟ وإلي أين؟

المؤسسة الملكية طرحت شعارا من شأنه أن يلخص الطبيعة التجديدية للمسعى الذي هي بصدده، ألا وهو «المفهوم الجديد للسلطة». وببساطة فإن التغيير هو نحو أن يكون المغرب، بمغاربة اليوم، قادرا على أن يتحمل وجوده في مناخ دولي لا مكان فيه لمن هو ليس قادرا على المنافسة، ويتاح فيه لكل راغب حقا في الالتحاق بركب الموجة الصناعية، أن يحتل الموقع الذي هو قادر عليه. والسبيل إلى ذلك هو الإرادة والتخطيط. أثناء التفاوض على الإصلاح السياسي والدستوري في مفتتح التسعينات، كان المحور هو ترتيب أساليب المشاركة، وقبل ذلك فتح آفاق المشاركة أمام الطاقات الحية، التي تطلب لنفسها موقعا خليقا بشعب له بالإضافة إلي الحيوية المطلوبة، عزيمة قوية على أن يبني مستقبله في ظل الاستقرار، في ظل مؤسسات يحس بالانتماء إليها.

اقتضت رواسب فترة اللاثقة تصفية ملفات حقوق الإنسان، وتركيز مناخ الانفتاح، حتى مع قبول التشوهات الموروثة من عهد صنع الخريطة السياسية مسبقا. وتبين أن فترة اللاثقة، عطلت المسيرة، وجلبت كوارث تم اجتيازها بمعاناة قاسية في كل المجالات، وبثمن فادح اجتماعيا، يعبر عنه أن المغرب في مؤخرة مؤشرات التنمية الاجتماعية. وتبين أن طريق الخروج هو ترتيب جديد لأساليب ممارسة الشأن العام، عبر الإصلاح الجوهري الذي تم في مستوى تشكيل الحكومة، وجعلها لأول مرة نابعة من تنصيب كل من الملك والبرلمان.

وحينما أقول إن المسيرة لن تبدأ من الصفر، فهذا يعني أن كل الأطراف، أمامها دروس ثمينة، بعضها مستمد من روحانيات المسيرة الإصلاحية نفسها التي أدت إلي إقامة حكومة ذات طبيعة خاصة، لمهام هي مرحلية بكل تأكيد، وبعضها أفرزته تجربة التناوب التوافقي نفسها.

لن أستطرد للتذكير بأطوار النقاش التي حفل بها قطع مسافة المسلسل الديموقراطي، ولن ألح على الثغرات التي ظهرت أثناء السير، في غمرة ممارسة حكومة التناوب لصلاحياتها بشكل ما. ولكن ربما تجب الإشارة، إلى أن الأجواء الجديدة التي خلقتها الخلافة السلسة التي شهدها المغرب، كانت حافلة بالاختبارات التي لم تكن بلا جدوى، لأنها جعلت كل طرف يستبر مدى مقاربته. فعسى أن يكون قد ظهر أن ترتيب المشاركة، وهو فحوى المسلسل الذي أدى إلى ما أدى، لا ينفعه في شيء الرجوع إلى الأساليب القديمة في ممارسة السلطة، أي أن المؤسسات ليست للزينة، بل للجدوى. ولكي تحصل الجدوى، يجب أن يساهم كل من موقعه، وبطبيعة وظيفته، المحددة بالدستور، لدفع الأمور إلى الأمام، أي نحو مزيد من البرلمانية، ومزيد من الاعتماد على قوى ذات مصداقية، ومسلحة ببرنامج لمغرب الغد الواثق من نفسه، والمطمئن إلى نجاعة مسيرته.