العدالة شرعية وقانونية

TT

محاكمة الرئيس اليوغوسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش في لاهاي قد تثير الكثير من التساؤلات حول أبعاد العدالة. أهميتها انها تعطي دروسا هائلة للديكتاتوريين، كي، وتكراراً: كي يعودوا عن غيّهم. لكن نقطة ضعفها انها فتحت عيون هؤلاء الديكتاتوريين وجعلتهم لا يغادرون بلادهم أو يلجأون الى دول تقبلهم كلاجئين سياسيين.

فالكثير من الديكتاتوريين الأفارقة السابقين يعيشون في مزارع خضراء في جنوب افريقيا، ويبرز الآن ديكتاتور آخر يؤكد وجوده ويتحدى، والعالم «يراضيه» انه روبرت موغابي الذي بدأ مجازره لحظة تسلمه الحكم.

من جهة أخرى، اثار بدء محاكمة ميلوسيفيتش في المحكمة الدولية لجرائم الحرب الكثير من الاسئلة حول شرعية المحكمة. لقد اقر انشاءها مجلس الأمن لكن لم تصادق عليها الجمعية العمومية ولا أي برلمان في العالم، ورجال القانون الدولي يعتبرون المحكمة قانونية انما غير شرعية. وهنا يختلفون فقانونيتها تجيز بنظر البعض الاعتقال والمحاكمة، وعدم شرعيتها بنظر البعض الآخر، لا يجيز لها اصدار الاحكام. ويختلفون ايضا حول تشبيهها بمحاكمات نورمبرغ ويقول بعضهم ان النازية حوكمت لشنها حربا على السلام في العالم، وعلى ما ارتكبته من فظائع ومجازر، لكن لم تتم محاكمة الكثير من ابرز النازيين، بل استفاد الغرب، وبالذات اميركا، والاتحاد السوفياتي، من عقولهم.

ويتفق الجميع على ان العدالة هي السلاح الاساسي للقضاء على الارهاب، وهنا تتطلع الانظار الى قرار اميركا بمحاكمة ارهابيي القاعدة في محاكم خاصة، الامر الذي يؤكد عدم شرعية محكمة لاهاي.

الآن، المطلوب من الادعاء العام في محكمة لاهاي ان يثبت بما لا يترك مجالا للشك ان حرب ميلوسيفيتش في كرواتيا والبوسنة وكوسوفو من 1991 حتى 1999، كانت في الاساس جزءا من استراتيجيته وخطته. وطالما ان الافتراض يقول ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته، فعلى الادعاء العام ان يمتلك ما يؤكد هذه الاتهامات، وسنرى هذا في الجلسات المقبلة.

ان تصرفات ميلوسيفيتش في الجلسات السابقة والبيانات التي تصدرها اللجنة الدولية للدفاع عنه، تشير الى استراتيجيته في الدفاع عن نفسه. فهو منذ البداية اصر على عدم شرعية المحكمة، لكنه كان يسجل الملاحظات التي ستشكل الدفاع. ومن المتوقع ان يدافع عن نفسه باتهام الآخرين وبالذات دول حلف الاطلسي، والرئيس الكرواتي (الراحل) فرانجو تودجمان ـ لم يكن أفضل منه ـ والارهابيين الالبان والمافيا. وكان محاميه اليوغوسلافي ذدنكو تومانوفيتش اعلن في بلغراد، ان ميلوسيفيتش سيخاطب العالم ويقول الحقيقة. مخاطبة العالم سوف تستغرق يوما وسيدعو شخصيات عالمية كشهود على «قوله الحقيقة»، من بين هؤلاء: الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون ورئيس الوزراء البريطاني طوني بلير والرئيس الفرنسي جاك شيراك، مما يعني ان استراتيجيته ستقوم على اتهام زعماء دول حلف شمال الاطلسي التي «شاركت في ارتكاب الجرائم ضد صربيا ويوغوسلافيا».

في السابق، كانت مشكلته كيفية الطلب من القضاة استدعاء الشهود، وهو لا يعترف بالمحكمة، وقد وجد مستشاروه القانونيون الحل، اذ اشاروا «عندما يذكر المتهم اسماء زعماء العالم كشهود، فعلى المحكمة استدعاؤهم للادلاء بشهاداتهم»، أو سيقوم بالمهمة «اصدقاء المحكمة»! انه اسلوب ميلوسيفيتش في استغلال كل شيء من دون الاعتراف بشيء، فهو سيعرض قضيته في المحكمة من دون الاعتراف بها رسمياً. ثم انه مع قراره بان يدافع عن نفسه نجح في ان يلتقي عددا من المحامين والمستشارين القانونيين ويتناقش معهم من دون مراقبة.

ويعرف، كونه درس القانون، انه لو سمى محاميّ الدفاع، لكانوا تحدثوا باسمه مع التزامه الصمت. واذا قرر ان يتكلم فعليه ان يؤدي القسم، والاسوأ ان يجيب عن اسئلة الادعاء. وباختياره الدفاع عن نفسه، يعرف انه يمكنه ان يقول ما يحلو له من دون ان يتعرض لاسئلة استفزازية.

هناك مثل يتداوله المحامون، يقول: ان كل متهم يقرر الدفاع عن نفسه، يكون وكيله مجنونا. وتبقى اليد العليا للقضاة بأن يحذروا ميلوسيفيتش من ان كل ما ينطق به يمكن ان يُستعمل ضده. في النهاية، قانونية أو غير شرعية، لا يهم. المهم ان يشعر الذين صاروا جثثاً أو أرقاماً في ثلاجات بأن العدالة استعادت وجودها.