استكمالاً لسؤال طرح على فريدمان.. أميركا تحتاج إلى فهم أفضل

TT

بأسلوبه الذي جعل منه واحدا من ابرز الكتاب والمعلقين السياسيين في الصحافة الاميركية، كتب توماس فريدمان قبل أيام مقاله عن جلسة في منزل دبلوماسي اميركي بلندن حضرها مع عدد من الصحافيين العرب، واشار الى سؤال طرح عليه اثناء جلسة الغداء جعله موضوعا لمقاله الذي نشرته «الشرق الأوسط» يوم الثلاثاء الماضي جريا على تقليد اتبعته في نشر مقالات الكتاب الغربيين المتميزين وترجمة الموضوعات المهمة لكي يطلع عليها القارئ العربي، لأن المعرفة أهم سلاح للانسان، ولكي لا يقال عن العرب مثلما قال موشيه دايان ذات يوم انهم لا يقرأون، واذا قرأوا لا يفهمون.

كان السؤال كما طرح: هل هناك دور يهودي في الحملة على السعودية والاسلام في وسائل الاعلام الاميركية؟ وكنت انا من طرح السؤال بحثا عن اجابة لمسألة ملحة ومهمة ومطروحة، ومن باب محاولة استكمال الصورة في فهم وتحليل ما بعد احداث 11 سبتمبر (أيلول) المروعة. وفي اجابته على السؤال طرح فريدمان قضايا واسئلة تحتاج الى اجابات والى نقاش وصرامة وجرأة مثل التي كتب بها مقاله.

بداية لا بد من تسجيل ان هجمات 11 سبتمبر كانت عملا ارهابيا مجنونا لا يقره عاقل ولا يقبله دين. بل كانت جريمة نكراء استهدفت ابرياء توجهوا صباح ذلك اليوم الى اعمالهم والى سفرياتهم يفكرون في شؤونهم وهمومهم الخاصة، وفي اطفالهم وزوجاتهم وعائلاتهم، ولا تخطر افغانستان او بن لادن على تفكيرهم أو جدول اهتماماتهم. وادانت غالبية المسلمين ـ لكي لا نقول كل المسلمين ـ الهجمات، واكدت حقيقة يجب ان يؤكد عليها كل عاقل وكل منصف، وهي ان منفذي تلك العمليات لا يمثلون الاسلام وان انتموا اليه، ولا يعبرون عن معتنقي هذه الديانة العظيمة ولا عن شعوب دولهم. فالارهاب كان دائما عملا متطرفا ترتكبه مجموعات صغيرة متشددة تحت شعارات واهداف مختلفة، علمانية او دينية او حتى اجتماعية. وهو ظاهرة لا دين ولا جنس ولا عرق لها، بل حدثت وتحدث في مختلف الدول وبواسطة مسلمين ومسيحيين ويهود وبوذيين. لكن هذا لا يعني ان نخطئ في التحليل وفي الهدف بأن نجعل من محاربة هذه الظاهرة التي لم تبدأ بأحداث سبتمبر ولن تنتهي ـ للأسف ـ بها، استهدافا لدين بعينه او لشعب محدد او لبلد معين.

وما يحير غالبية المسلمين اليوم ويثير غضبهم هو دمغ الاسلام بالارهاب من خلال الحديث عن «الارهاب الاسلامي»، وعبر عملية التشريح التي بدأت تحدث للاسلام كدين. كذلك يحيرنا الحديث عن ان الغرب مستهدف بسبب «قيمه» مثلما كتبت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت ثاتشر قبل ايام في صحيفتي «نيويورك تايمز» و«الغارديان» اللندنية، تحت عنوان «الاسلاموية هي البلشفية» الجديدة، او ان وجهة النظر المألوفة في العالم العربي والاسلامي عن اميركا انها دولة غنية وقوية لكنها بلا قيم، مثلما كتب فريدمان في مقاله المذكور. ذلك ان الحديث عن «القيم» يحمل اشارة فظة وايحاء خطيرا بأن مشكلة الاسلام هي في «القيم» وان هناك حرب «قيم» بين الغرب والعالم الاسلامي.

مثل هذه الطروحات تبطن مفاهيم «صراع الحضارات» وتحمل محاذير حرب الاديان. وقد قرأنا كتابات في الغرب حتى قبل احداث سبتمبر تتحدث عن انه بعد نهاية الحرب الباردة، فإن العدو الجديد للغرب هو الاسلام.

صحيح ان غالبية السياسيين والعقلاء، بل وغالبية الناس في الغرب، ترفض اعتبار الحرب ضد الارهاب حربا ضد الاسلام وتحذر من مخاطر ذلك. لكن بعض الممارسات وبعض السياسات اليوم تضع كل المسلمين في قائمة الاتهام وتحت طائلة الاشتباه، وتتعامل معهم كأنهم مذنبون بسبب جريمة ارتكبتها قلة محدودة متطرفة. كذلك فإن معالجة احداث سبتمبر بدأت تضل طريقها وتدفع الى نتائج عكسية من خلال عمليات الرصد والمراقبة والتشدد مع كل من يحمل اسما عربيا او يأتي من بلد اسلامي، ومن خلال الحملات الاعلامية التي تستهدف شعبا بأكمله لأن 15 من اصل 19 ارهابيا نفذوا هجمات سبتمبر جاءوا منه، ولأن بضع مئات ممن انتموا الى تنظيم «القاعدة» سعوديون.. وكذلك من خلال عملية تحديد دول تكاد تكون كلها عربية واسلامية باعتبارها العدو.. و«محور الشر» من ايران الى العراق وليبيا وسورية والسودان، ولا ندري أين تتوقف القائمة.

إن انتماء بعض المتطرفين الى بلد لا يعني ان كل شعب ذلك البلد متطرف او انه عدو لأميركا مستعد لتفجير نفسه في مبانيها ومنشآتها. فهذا المنطق كان سيجعل دولا مثل ألمانيا واليابان وايطاليا (وهي دول حليفة وصديقة لأميركا مثل السعودية) عدوة لأميركا وللعالم الغربي وللمسيحية واليهودية لأن عشرات من جماعات بادر ماينهوف او الألوية الحمراء او الجيش الاحمر قاموا بعمليات مسلحة في اوروبا وضد مصالح اسرائيلية واعلنوا العداء للولايات المتحدة. ولأن هذا المنطق غير سليم فإن احدا لم ينتقل في تحليله لظواهر الارهاب في الغرب او لجرائم في اسرائيل، للحديث عن ارهاب مسيحي او يهودي.

إن المسلمين ليسوا من السذاجة بحيث يتعاملون مع احداث 11 سبتمبر وكأن شيئا لم يكن، او كأنها مؤامرة. كما انهم ليسوا اغبياء حتى يرفضوا النظر في حقائق اساسية في ذلك الحدث المهول، وحتى يتعاموا عن تحليل الوقائع واستيعاب الدروس لفهم ما حدث ولأخذ العبر منه للتصدي لظاهرة الارهاب ولمعالجة المشاكل والظواهر التي تسمح بنشوء تيارات التطرف. ففي العالم الاسلامي قضايا سياسية وظواهر اجتماعية وممارسات دينية لا بد من التوقف عندها وتحليلها ومعالجتها لتجفيف البحيرة وقطع الاوردة التي يتغذى منها الفكر المتطرف وتوظفها مجموعات لشن حروب ارهابية، لا على اميركا او اوروبا فحسب، بل لزعزعة الحكومات في الدول العربية والاسلامية واطاحتها لانشاء انظمة جاهلة استبدادية محلها على غرار نظام «طالبان».

كذلك فإن المسلمين ليسوا من السذاجة بحيث لا يبحثون عن اسباب الهجمة التي تستهدف الاسلام كديانة وتشوه سمعة المسلمين جميعهم، من دون تمييز بين غالبية تتعامل بسماحة هذا الدين، واقليات معزولة متطرفة تتاجر به، وتستخدمه مبررا لممارسات شنيعة. من هذا المنطلق قلت في تلك الجلسة للزميل الكاتب فريدمان ان حركة بن لادن يجب النظر اليها على انها حركة سياسية تستغل الدين لمآربها واهدافها، وليس على انها حركة دينية. فقادة «القاعدة» ليسوا رجال علم وفقه نذروا انفسهم للدعوة بالحسنى مثلما يقول دينهم، بل هم سياسيون «متدينون» او وصوليون هدفهم في النهاية ايصال حركاتهم الى سدة الحكم، وشن حرب لا تعرف حدودا، بل تمتد الى العالم كله.

أما لماذا السؤال عما اذا كان هناك دور يهودي في الحملة على السعودية والاسلام، فإن موجب طرحه هو المساعدة في تصحيح الصورة واعادة الحرب ضد الارهاب الى مسارها الصحيح، لا كحرب اميركية، بل كحرب عالمية تشترك فيها كل دول العالم لاقتلاع ظاهرة مشينة ومميتة من جذورها. وباعتراف فريدمان فإن اليهود ممثلون في اجهزة الاعلام والتثقيف الاميركية، من الصحف والتلفزيونات وحتى استديوهات هوليوود، تمثيلا كبيرا، بل بشكل غير متناسب مع تعدادهم، وهذا امر لا يملك الانسان الا ان يعجب به باعتباره شاهدا على حيويتهم وقدرتهم على التأثير، في مقابل عجز وفشل عربيين واسلاميين في التأثير الاعلامي والسياسي في اميركا واوروبا بذات القدر. لكن هذه الهيمنة اليهودية على الاعلام تطرح ايضا تساؤلات حول ما اذا كان هناك تداخل احيانا بين العاطفة اليهودية الطبيعية مع اسرائيل، وقدرة الكاتب والصحافي على التأثير. أي تأثير العاطفة في الحياد. فالكاتب المسلم يتعاطف طبيعيا مع قضايا المسلمين حتى ولو كان اميركيا، والكاتب اليهودي ايضا يتعاطف مع قضايا اسرائيل ولو كان اميركيا.. فهذه هي الطبيعة البشرية.

ولأن الحملة على السعودية وعلى الاسلام كانت سابقة بوقت طويل لاحداث سبتمبر، ولأن بعض اصدقاء اسرائيل في الكونغرس وبعض الكتاب في الاعلام الاميركي أثاروا في بعض الاحيان قضايا ضد العرب، وتبنوا مواقف ضد بيع السلاح مثلا لدول معتدلة مثل مصر والسعودية، فإن تلك المواقف بدت وكأنها متطابقة مع المواقف الاسرائيلية اكثر منها مع المصالح الاميركية.

لقد ذكر فريدمان ان عددا من الصحافيين والكتاب ورجال الكونغرس اليهود في الولايات المتحدة وقفوا الى جانب قضايا المسلمين في البوسنة وفي كوسوفو وفي الكويت وأيدوا السعودية ضد التهديد العراقي عام 1990. وهذه المواقف صحيحة، ونابعة من الموقف الاخلاقي المطلوب في التصدي للظلم حيثما كان. واجدني اذهب ابعد من فريدمان لأقول ان هناك يهودا بل واسرائيليين في «حركة السلام» يدافعون عن حقوق الفلسطينيين وينتقدون سياسات الاستيطان وتدمير البيوت والتقتيل للفلسطينيين. ومع مثل هؤلاء يجب ان نقف لأن مصلحة كل شعوب العالم هي في السلام وفي التصدي للظلم وللقهر والفقر، فهذا هو الطريق الوحيد لتجفيف البؤر التي يتغذى منها التطرف ويترعرع فيها الارهاب.

لكن لأن اليهود لديهم نفوذ لا ينكر في الاعلام الاميركي، ولأنهم شعب عانى في الماضي من الاستهداف بسبب ديانتهم، فإنهم يفهمون اكثر من غيرهم، ربما، الغبن الذي يشعر به المسلمون حين يلمسون ان هناك حملة تستهدفهم جميعا وتدمغ دينهم بالارهاب، وحين يجدون ان هناك سياسات يدفعون ثمنها كلهم، بالرغم من ان اقلية محدودة متطرفة هي المسؤولة عن هجمات سبتمبر مثلما انها مسؤولة عن تفجير سفارتي اميركا في نيروبي ودار السلام، وايضا عن قتل السياح في مصر وعن ذبح الابرياء في الجزائر، وعن التفجيرات في الرياض والخبر، وعن اعمال أخرى لا مجال لحصرها في هذا المكان.

ان الكتاب والمحللين والسياسيين وكل العقلاء مطالبون بتصحيح المفاهيم الخاطئة ومنع انزلاق الحرب ضد الارهاب نحو وجهة خطيرة، والحيلولة دون تحولها الى حرب يشعر المسلمون والعرب انها تستهدفهم كلهم او انها تطال دينا بعينه. وما يثار حتى الآن في وسائل الاعلام وفي كواليس السياسة وفي تصريحات السياسيين في عدد من العواصم، لا يبعث على الراحة.