«همروجة» الصواريخ!

TT

عشنا نحن جيل النكبات والويلات وظاهرة هدير الحناجر والانتصارات الصوتية، مرحلة «القاهر والظافر». وحلمنا احلاما وردية، وصدقنا كل ما كان يقال، وانتظرنا دمار تل ابيب، وانهيار اسرائيل، وإلقاء اليهود في البحر وليمة للسمك المتجوع، ففوجئنا بذلك اليوم الحالك السواد الخامس من حزيران، الذي كل ما رأيناه خلال العقود الثلاثة الماضية وما نراه الآن هو بعض من استحقاقاته.

صدقنا نحن، لكن اسرائيل لم تصدق بأن هناك «قاهرا وظافرا»، فهي كانت تعرف الحقيقة، لكنها تحركت بسرعة لاقناع العالم الغربي، صاحب الحول والطول، بأن شعبها بحاجة الى الحماية من الصواريخ العربية المتحفزة، وانه إذا لم يتحرك الاوروبيون والاميركيون قبل فوات الأوان، فإن الاسرائيليين سيصبحون طعاما لاسماك البحر الابيض المتوسط «المتجوعة».

نبالغ دائما ثم ندفع ثمنا غاليا ولعل عمرو بن كلثوم الذي قال: «ملأنا البر حتى ضاق عنا وماء البحر نملؤه سنينا» لم يكن رأى بحرا في حياته، ولم يكن احد من افراد قبيلته يتقن العوم والسباحة.

عشية «حزيران» راجت أهزوجة في احد اقطار «المواجهة»!! تقول:

ميراج طياركْ هَرَبْ مهزومْ من نِسْر العربْ و«الميغ» علَّت وأعتلت بالجو يتْحدَّى القَدَرْ ولقد رأينا ماذا حل بـ «الميغ» وماذا فعلت «الميراج»، وكانت اسرائيل في ذلك الوقت تعتمد بالنسبة لسلاحها الجوي على فرنسا، ولم تتحول بعد الى الولايات المتحدة الاميركية.

نسمع الآن عن اجيال متعاقبة من صواريخ «القسام» و«الاقصى» وشطح الخيال بالبعض حتى قالوا ان «الكنيست» الاسرائيلي بات تحت رحمة هذه الصواريخ. وكالعادة فإن اسرائيل المتفوقة دائما في استغلال مبالغاتنا والاستفادة منها، بادرت الى حملة اعلامية عنوانها الدفاع عن النفس، وحماية الاطفال الاسرائيليين من هذه الصواريخ، وذلك على غرار ما قالته ايام «همروجة» القاهر والظافر.

ونسمع في ذروة الحرب التي تشنها اسرائيل على الشعب الفلسطيني ومؤسساته، عن انشاء جيش من المتطوعين قوامه 8 ملايين لتحرير الاقصى وفلسطين، فيدفع الفلسطينيون الثمن ويستغل الاعلام المنحاز «شطحة الخيال» هذه، ويجد بوش مبررا جديدا لاطلاق يد شارون، على اعتبار ان العدو واحد، وانه لا بد من تدمير الفلسطينيين قبل ان يصل هذا الجيش الجرار ليدمر الاسرائيليين ويلقيهم في البحر.

كان يجب ان لا تتحول الانتفاضة الاخيرة الى مواجهة عسكرية، وكان بالامكان ان «يغلب الدم السيف»، كما حدث في جنوب افريقيا وفي الهند، وكانت اسرائيل لا تستطيع استخدام لا «الاباشي» ولا الـ «F16»، لو انها لم تستطع استدارج الفلسطينيين الى المواجهة العسكرية، والانحراف بالانتفاضة الى حرب «هاونات» وصواريخ، لم تقتل، حتى الآن اسرائيليا واحدا، فالاسرائيليون هم الاضعف في المواجهة السلمية، بينما هم الأقوى في المواجهة العسكرية.

لدى الفلسطينيين المحاصرين كل المبررات ليفكروا في الهاونات والصواريخ الحقيقية والكرتونية.. فلا يستطيع أي كان ان يدينهم، لكن المؤكد، في ظل الواقع الفلسطيني ومعادلات القوى، انه ما كان للانتفاضة ان تأخذ هذا المنحى. ولقد ثبت ان شارون هو المستفيد الوحيد من المبالغة التي رافقت «همروجة» الصواريخ والهاونات، فهي التي تبرر كل هذا البطش، وهي التي تعزز الادعاءات الاسرائيلية بأن المسألة ليست مسألة احتلال وشعب يقاوم، بل مسألة حرب تقليدية.. مدافع مقابل مدافع، وصواريخ مقابل صواريخ، ورعب مصدره الفلسطينيون ليضطر الاسرائيليون الى الرد عليه برعب مماثل، وشعب اسرائيل مسكين مضطر لاستخدام «الأباشي» والـ «F16» لحماية نفسه من القسام ثلاثة واخوانه وأبناء عمومته!!