استحقوا عقاباً لا نستأهله نحن

TT

اقر مجلس الوزراء اللبناني يوم الخميس الغاء الحماية على الوكالات الحصرية في البلد. اي انه شرَّع حرية الاستيراد من كل مكان والغى حق الوكلاء. وانا كمواطن ضد هذا القرار، لأنه غير «طبيعي» حتى في اكثر الاسواق حرية، من اميركا الى دبي. فالوكيل اشبه بـ«المدير المسؤول» في الصحيفة: مهما كانت درجة الحرية يجب ان يبقى هناك مسؤول ما. والغاء الوكيل يعني الغاء المسؤولية والغاء الجودة ووضع بعض القضايا الحساسة، كالدواء، في ايد غير مسؤولة واحياناً اجرامية. ان اكثر حوادث الطائرات التي تقع منذ سنوات سببها شراء قطع الغيار من غير الوكيل. اي من المزوَّر او من المهرَّب. ونظام «الوكالة» ليس احتكاراً بقدر ما هو ضمانة، والغاؤه هو فتح باب المنافسة والفوضى معاً.

اما وقد قلنا ذلك، بكل صراحة ووضوح، فإننا اسفون على نظام «الوكالات» وليس على «الوكلاء». لأن معظم الوكلاء في لبنان اشباح او اغوال. لا احد يعرف من هم. لا احد يرى صورة لهم. لا يظهرون في مكان. انهم اكثر الناس غنى وثراء لكن احداً لم يرهم يتبرعون بفلس واحد لمستشفى او لميتم او لجمعية خيرية او لاقامة مدرسة او لكرسي في جامعة. ربما كان بعضهم، بلا شك، يفعل ذلك. ويفعل ذلك كما ينبغي، اي بصمت وتواضع. لكن الاكثرية الساحقة لا تفعل شيئاً في سبيل الخير. انها تبحث عن افضل الطرق للتهرب من الضرائب وافضل السبل للتهرب من حقوق العمال والموظفين. ليس من مشروع انساني واحد يحمل اسمها. ليس من مشروع واحد لعائلات الموظفين والعمال. ليس من مبادرة واحدة في سبيل احد الا في سبيل النفس.

انها طبقة ـ في معظمها ـ تعتمد الوسائل البالية في الحياة الاقتصادية، وتخاف الظهور تهرباً من المسؤولية الاجتماعية، ولا تراعي احداً سوى الذين تخافهم، ولا تساهم في بناء البلد وتطويره الا بما يساهم في رفع موازناتها وتعظيم ارباحها. ولذلك لا يؤسف على ارباحها كثيراً، لان كل ربح لا يزكى ولا يخيّر ولا يطلب بركة البرّ، هو ربح سيئ. وهو غالباً ربح بخلاء الجاحظ، او بخلاء موليير. انها العلقة التي تمتص من شرايين المجتمع من دون ان تترك لغيرها شيئاً.

لقد كان هذا رأيي وكانت هذه مواقفي ومشاعري وانا شاب. وربما انني انسخ اليوم بكل امانة ما كتبت في الستينات والسبعينات. وسوف اكتب ذلك غداً اذا وقعت المناسبة. لكنني ايضاً ضد الغاء الوكالات بهذا التسرع. ضد ان نضع احوال الناس، واحياناً ارواحها، في ايدي اناس لا نعرفهم ولا يتحملون اي مسؤولية. وقد يكون بعضهم بلا ضمير. والاسواق مغرقة منذ الآن بأدوية انتهى مفعولها وبعطور مزورة وبسيارات غير آمنة وبمحركات توزع السموم مع الهواء. وقد سمعت وزير الصحة سليمان فرنجية يقول قبل يومين ان وزارته رخصت بالعمل فقط لثلاثين شركة تعبئة للمياه، اما عدد الشركات العاملة حقاً فهو 800 شركة. هذا هو كلام الوزير، وفي غياب الرقابة الى هذا الحد يبدو الغاء الوكالات الحصرية اضافة اخرى الى الضريبة المضافة والى الفوضى. اكتب هذا الكلام بحسرة مضافة لانني عائد للتو من دبي. وقد قلت للشيخ محمد بن راشد ان اللبنانيين الذين كانوا يهاجرون الى الخليج في الماضي، كان يقال «انهم ذاهبون الى الصحراء» والآن يعودون الى لبنان لزيارة اهلهم ثم يقولون: «اشتقنا». ويعنون بذلك تلك الصحراء بالذات.