مشروع (حرب فكرية) ساخرة: (الإسلام الراديكالي) هو العدو!!

TT

هما ظاهرتان، صاحبتا وأعقبتا الاحداث التي وقعت في الولايات المتحدة منذ اكثر من خمسة اشهر.

الظاهرة الأولى: جعل المناخ العالمي (ساخنا) دوما، فكلما كاد الجو يبرد، سُخِّن بشيء: شريط جديد.. او تكرار للتهديد بتوسيع نطاق الحرب.. او صدور بيان امني تحذيري يقول للناس: توشك ان تصيبكم قارعة جديدة.. او كلمات ملتهبة تبدئ وتعيد حول تقسيم العالم الى قسمين: احدهما خيّر والآخر شرير، الى غير ذلك من مواقف التسخين والكهربة.. فماذا وراء هذه الظاهرة؟.. أهي استراتيجية جديدة لإطالة امد التوتر الساخن ابتغاء انجاز اهداف لا تنجز الا في مناخ ساخن؟

الظاهرة الثانية هي: استمرار التصعيد ضد الاسلام والتفنن في ذلك بصيغ كثيرة، وإخراج متنوع الصور والاشكال.

والظاهرة الثانية هي قوام هذه المقالة.

ومن القرائن الجديدة على التصعيد ضد الاسلام:

1 ـ المقارنة الجاهلة والفجة التي عقدها وزير العدل الامريكي (جون اشكرفت) بين الإله في الاسلام، والإله في المسيحية، وهي مقارنة تبدت في قوله: «ان الاسلام يعد دينا يطلب فيه الله منك ان ترسل ابنك ليموت من اجله. ولكن في الديانة المسيحية فان الله يرسل ابنه ليموت من اجلك».

ولا شك ان هذا هجوم (عقدي) على الاسلام، في اعظم واشرف واغلى اصوله وهي: العقيدة في الله جل ثناؤه، والا فان الكلام ساقط علميا وموضوعيا:

اولا: ان إله المسلمين والمسيحيين، وإله الناس جميعا: واحد. ولذلك، ومهما كان مستوى الجدال، علّم الاسلام بنيه: ان يلتزموا هذه الحقيقة، وعلمهم الا يجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي احسن، وان يعلنوا ايمانهم بما أنزل على اهل الكتاب، وان يثبتوا على ذلك، مهما كان موقف اهل الكتاب من الاسلام والمسلمين: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون».

ثانيا: ان الله الذي نؤمن به لا يأمر بقتل الانسان، بل نزل في كتابه: «أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا».. والله الذي نؤمن به حرم الظلم والعدوان. ولكنه ـ جل ثناؤه ـ احل ردع الظلم والعدوان: دفاعا عن النفس وعن سائر الحقوق التي شرع. والمسلمون ليسوا بدعا في هذا. فكل أمة على هذه الارض من حقها: الغريزي والعقلي والقانوني ان تدافع عن نفسها.. وأبرز مثال على ذلك: الولايات المتحدة، فهي قد بنت لنفسها قوة عسكرية ضاربة حول العالم لكي تدافع عن أمنها ومصالحها. وهذا الدفاع بلغتهم، هو الجهاد بلغتنا.

والوزير الأمريكي المتحامل على الاسلام يشير الى «الجهاد» في الاسلام حين يقول: «ان الله في الاسلام يريد ان ترسل ابنك ليموت من اجله».. وهذا تصور اسطوري لمفهوم الجهاد في الاسلام. اذ ان للجهاد الحق في الاسلام شروطا يعصي الله، وينحرف عن منهجه من يخالفها او يخل بها، ومن اثبت هذه الشروط: دفع العدوان دون اعتداء، اي دون تزيد او فجور او تجاوز في الرد: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين».

ثالثا: ان الوزير الامريكي يخلط ـ عن عمد او عن جهل ـ بين الاسلام وبين تصرفات نفر من اتباعه كأولئك الذين اتهموا بالتفجير في نيويورك وواشنطن، وهو خلط لا يطيقه الوزير ـ ولا بلده ـ اذا طبق عليهم. فهم لا يطيقون الخلط بين المسيحية وبين ما فعله قاتل كندي، ومفجر المبنى الاتحادي في اوكلاهوما، وناشر الجمرة الخبيثة الخ.

وما قاله اشكروفت بوضوح، قاله آخرون بطريقة ملتوية او ملفوفة.. ويظهر هذا في القرينتين الاخريين:

2 ـ قالت (مارجريت ثاتشر) ـ رئيسة وزراء بريطانيا السابقة ـ : «ان الغرب عرضة لخطر (الارهاب الاسلامي)، وان هذا الخطر هو (البولشفية الجديدة)، وان على الغرب ان يجمع امره على محاربة الارهاب الاسلامي في كل مكان». ومن الدلائل القاطعة على التحيز، وعلى عدم الامانة في كلام مارجريت ثاتشر: انها لا هي ولا قومها، وصفوا افعال الجيش الجمهوري الايرلندي بانه (ارهاب كاثوليكي او مسيحي)، مع النزعة المذهبية السافرة في هذا الصراع، ومع ان وسائل الجيش الجمهوري الايرلندي واساليبه ينطبق عليها وصف الارهاب، اذا اسقطت حيثية النضال من اجل الاستقلال.

3 ـ اصدر ستون شخصا من مفكري امريكا ومثقفيها بيانا او رسالة بعنوان «ما الذي نحارب من اجله؟.. رسالة من امريكا».. ومن بين هؤلاء المثقفين (صمويل هنتنجتون)، و(فرانسيس فوكوياما) وقد عرف هذان الرجلان بالحط من قدر الاسلام، وبالتحريض الفكري والسياسي عليه وعلى أمته.

صك بيان هؤلاء المثقفين وأصّل مصطلح (الاسلام الراديكالي)، وبنوا على هذا المصطلح المصكوك او المصنوع: آراء ومواقف وسياسات.. وهذه فقرة مما جاء في ذلك البيان: «إن العدو الذي تخوض الولايات المتحدة الحرب ضده هو (الاسلام الراديكالي) وهو الحركة السياسية الدينية التي تعتمد في نهجها على العنف والتطرف والتشدد وعدم التسامح».

ان هذا البيان: تأصيل ومَنْهَجةٌ لـ(حرب فكرية) على الاسلام نفسه من حيث ان الراديكالية اضيفت الى الاسلام ذاته، وهو تأصيل لسياسات تلمع وتخبو، وتستحي حينا، وتفجر احيانا، كما ان هذا التأصيل يأتي كإسناد للحملة الاعلامية الضارية التي لم تترك شيئا في الاسلام الا عابته.. واذا قلنا: ان العنف نزعة اجرامية ـ وان كانت المفردة في حاجة الى تحديد وضبط ـ فاننا نسأل: من الذي يحدد معاني التشدد والتطرف وعدم التسامح؟.. وما المقاييس المتفق عليها في هذا الشأن.. ولا سيما في هذه الفوضى الفكرية والاعلامية التي تطلق فيها ألفاظ التشدد وعدم التسامح على ارونلتزم بالاسلام، حتى وان كان من اعظم المعتدلين، واوفرهم تسامحا.. ثم ان طرح هذه المفردات كثيرا ما يراد به (شن حرب نفسية) على المسلمين تجعلهم يخجلون من اسلامهم.

اسلام راديكالي.. وهذا الاسلام الراديكالي هو (العدو) الذي يجب خوض حرب عالمية او كونية ضده.

لقد قيل ـ بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ـ ان (الاسلام هو العدو البديل). فهل درس الامر، واعيد تكييفه، ومن ثم اختير مصطلح جديد وهو: (ان الاسلام الراديكالي هو العدو)؟

هذا امر غير مستبعد.

فتحت ستار مكافحة الاسلام الراديكالي، يكافح كل شيء اسلامي ثم يقال: اننا لا نحارب الاسلام، ولكن نحارب الاسلام الراديكالي.

ومن يحدد مفهوم الاسلام الراديكالي؟.. هنتنجتون ام فوكوياما اللذان صيغ البيان من افكارهما؟

وهل يدرك اولئك الذين صاغوا هذا المصطلح، وجعلوه عمدة لبيانهم: انهم يدشنون (حربا فكرية ودينية) بين العالمين: الاسلامي والمسيحي؟ وان بيانهم هذا يضطر الذهن الى استدعاء مقولات: (انها حرب صليبية)، وانه (صراع حضارات)، وان (البلاء في الاسلام ذاته)!! إسلام راديكالي.

ان الراديكالية نسبت الى الاسلام ها هنا. في حين ان المنهج الموضوعي الامين ينسب افعال البشر الى فاعليها من البشر ولا ينسبها الى اديانهم.

وهذه قضية تتطلب تحقيقا منهجيا، وبسطا في القول.

هناك من المسلمين من يستبيح الدماء المعصومة ـ مسلمة وغير مسلمة ـ فلا يصح ان يقال: اسلام استباحة الدماء المعصومة.

وهناك مسلمون حرامية، فهل يليق ان يقال: اسلام الحرامية؟

وهناك مسلمون يتاجرون في المخدرات والاعراض، فهل من العقل ان يقال: اسلام الاتجار بالمخدرات والاعراض. وهناك مسلمون يتلبسون بأنواع من الشرك. فهل من الموضوعية ان يقال: اسلام الشرك؟

وهناك مسلمون فيهم جاهلية عنصرية، فهل من المنهج الصحيح ان يقال: اسلام الجاهلية والعنصرية؟

وهناك مسلمون فيهم قسوة وغلظة وجلافة، فهل من العدل المنهجي ان يقال: اسلام القسوة والغلظة والفظاظة، في حين انه الدين الداعي الى الرحمة، الزاجر عن الفظاظة وغلظة القلب: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك».

فاذا كان الجواب عن هذه الاسئلة بـ(لا)، فانه من العدوان الفكري على الاسلام: ان تنسب اليه اخطاء بعض اتباعه وخطاياهم، فيقال: الاسلام الراديكالي، او اسلام العنف.

واذا كان الجواب عن تلك الاسئلة بـ(نعم)، فانه ينبغي تعميم المنهج في هذه الحال، اذ ليس من المنهج العلمي: استثناء المسلمين وحدهم في هذا المجال.

وبناء على تعميم المنهج وطرده: هل يصح ان يقال:

مسيحية ابادة الهنود الحمر: اشارة الى الابادة التي حصلت في اميركا على يد بعض المنتسبين الى المسيحية؟

مسيحية الهولوكوست اليهودي: اشارة الى المحرقة التي نظمها بعض المسيحيين لليهود (نذكر الواقعة مجردة من المبالغة والتهويل).

مسيحية العنف الدموي الصاعق: اشارة الى عنف الجيش الجمهوري الايرلندي، والى العنف السارب في المجتمع الامريكي: في العائلة والشارع، والمدرسة، والسوق؟

مسيحية الظلم العالمي: اشارة الى الظلم الذي باشره قادة الغرب المسيحي على العالم الاسلامي، وعوالم اخرى عديدة في حقب معروفة من التاريخ الحديث والمعاصر؟

كتب السياسي الامريكي الشهير (وليام فولبرايت) كتابا عن بلده بعنوان (امريكا: غطرسة القوة).. فهل يقال: مسيحية الغطرسة؟

ان هذه الاسئلة، قصد بها تنبيه اولئك المثقفين الامريكيين الستين الذين صكوا مصطلح (الاسلام الراديكالي هو العدو) تنبيههم الى الورطة الفكرية المنهجية التي تورطوا فيها، والا فان المسيحية بريئة من الافعال الشريرة التي يقترفها بعض اتباعها. كما ان الاسلام بريء من الافعال الشريرة التي يقترفها بعض اتباعه.