أخطار التوجه الأميركي لضرب العراق

TT

بات من الواضح ان الخلاف الذي كان بارزا داخل الادارة الاميركية، بين تيار المتشددين (تشيني، رامسفيلد)، وبين تيار المعتدلين (كولن باول ووزارة الخارجية)، قد حسم على يد الرئيس جورج بوش لصالح التيار المتشدد وبات من الواضح ان الفهم غير المعلن للولايات المتحدة لمعنى الارهاب، قد تم وضعه موضع التطبيق، فالولايات المتحدة التي رفضت تعريف الارهاب في قرار مجلس الامن حين صدر تأييدا لها بعد ضربات 11 سبتمبر/ايلول 2001، كان لها تعريفها الخاص للارهاب وتسعى عمليا الى فرضه على العالم كله، وخلاصة هذا التعريف ان الارهاب هو كل ما يتعارض مع مصالح اميركا، وان الارهابيين هم كل من يرفض الانصياع لها.

وحسب هذا التعريف الاميركي للارهاب تبرز الصورة المنوعة التالية:

اولا: الارهابيون الفعليون الذين يقومون بعمليات ارهابية ضد الولايات المتحدة او ضد حلفائها.

ثانيا: الدول التي تسعى لبناء قوتها العسكرية ـ الذاتية، خلافا للسقف الذي تحدده الولايات المتحدة، وهنا تأتي ايران وكوريا الشمالية في المقدمة.

ثالثا: الدول التي ترفض تنفيذ طلبات للولايات المتحدة، مثل العراق الذي يرفض عودة المفتشين الدوليين الى اراضيه.

رابعا: الدول التي ترفض اعتبار مقاومة الاحتلال الاجنبي عملا ارهابيا، وهنا يمكن ادراج سوريا ولبنان واعتبارهما دولا تدعم الارهاب وتحميه (حزب الله في لبنان، والمنظمات الفدائية في سوريا).

خامسا: القوى التي تقاوم الاحتلال (الانتفاضة الفلسطينية)، وتتسبب مقاومتها بسقوط مدنيين، وهنا يتم اعتبار مقتل مدنيين في حالة مقاومة الاحتلال عملا ارهابيا.

ويفرض هذا التعريف على الولايات المتحدة ان تضع خطة طويلة المدى لشن حروب متواصلة من اجل فرض زعامتها على العالم، وهي زعامة قائمة فعلا، ولكن الولايات المتحدة تريد ان توصلها الى مرحلة الانصياع. ولا يحتاج المتتبع الى جهد كبير لالتقاط الاشارات الدبلوماسية الاميركية الى وجهة تطبيق هذا الفهم لمضمون الارهاب، فالحملة الاميركية ضد العراق تصاعدت في الايام الاخيرة واصبحت موضوعا يشغل بال العالم كله، وبرزت في وجهه معارضة عربية واوروبية وروسية، مع اصرار الولايات المتحدة على العمل منفردة اذا اقتضى الامر، كذلك لا يحتاج المتتبع الى كبير جهد ليكتشف ان جميع الدول والقوى التي تشملها الخطة الاميركية، وباستثناء كوريا الشمالية، هي دول اسلامية، الامر الذي يفرض فرضا القول بأن الولايات المتحدة تشن حربا مفتوحة على العالم الاسلامي. وحين يتم نشر رسالة مفتوحة، يوقع عليها ستون مثقفا اميركيا، وتعلن الوثيقة ان حرب الولايات المتحدة هي حرب ضد «الاسلام المتعصب» فإن هذا القول يسهم في تعبئة الرأي العام الاميركي وتحضيره لمثل هذه الحرب الشاملة. لقد كان بوسع هؤلاء المثقفين القول بأن الحرب هي ضد التطرف والتعصب والعنف الاعمى من اي جهة جاء (ومنها جهات اميركية)، ولكن اصرارهم على تخصيص الاسلام بهذه الصفة يمهد لبروز تيار اميركي شعبي يماهي بين الاسلام وبين التعصب، ويماهي بين المسلمين العاديين وبين التعصب.

ولكن ماذا تريد الولايات المتحدة من ضرب العراق؟

الهدف المعلن هو منع العراق من امتلاك ما يسمى أسلحة الدمار الشامل، والقول بأن هذه الاسلحة تهدد امن الولايات المتحدة، اما بواسطة العراق نفسه، او من خلال احتمال تسربها الى قوى ارهابية، والشكل التنفيذي لهذا الهدف هو شن حملة عسكرية واسعة (قوة تدميرية هائلة، و 200 الف جندي اميركي) لاسقاط النظام في العراق. ويحتاج تنفيذ هذه الخطة الى امرين:

الامر الاول: وجود قاعدة انطلاق عسكرية ضد العراق تلعب الدور نفسه الذي لعبته باكستان في الحرب ضد افغانستان. وتركيا هنا هي الدولة المرشحة لأداء هذا الدور الجديد، وهي اطلقت مواقف متناقضة، يؤيد بعضها الحرب ضد العراق ويرفض بعضها الآخر هذه الحرب، ولكن يعتقد ان تركيا ستنصاع في النهاية للطلب الاميركي بسبب حاجتها للولايات المتحدة، وبسبب تحالفها الاستراتيجي معها.

الأمر الثاني: وجود تأييد عربي لشن هذه الحرب على العراق. ولأن العرب رافضون لمثل هذه الحرب، على الاقل رسميا، فقد تقرر ان يقوم ديك تشيني نائب الرئيس الاميركي بجولة في المنطقة، لكسب التأييد السياسي لهذه الحرب. وهناك من يقول انه بالرغم من الرفض العربي العلني والرسمي، فإن اكثر من دولة عربية مستعدة لتقديم تأييدها للخطة الاميركية اذا ضمنت امرين: عدم تقسيم العراق، وانجاز الخطة لهدفها النهائي المتمثل في اسقاط النظام العراقي، وان كان مثل هذا التحليل المتوقع يفتقد الى المتانة، لأن الحرب ضد العراق تتجاوز التأييد او المعارضة الى نتائج وذيول للحرب تنعكس على الجميع، والذين قد يواجهون حالة انفجار للوضع في المنطقة تأخذ شكل انفجار عسكري، وتصدعات اقتصادية، وصراعات سياسية مفتوحة.

الى جانب هذا الهدف الاميركي المعلن، هناك هدف غير معلن يتعلق بالنفط، وكما قيل اثناء حرب افغانستان بأن هدفها المباشر هو ضرب تنظيم القاعدة واسقاط نظام طالبان، ولكن هدفها غير المباشر هو احتلال موقع قوة استراتيجي في منطقة آسيا الوسطى، والتحكم بمصير نفط تلك المنطقة، في مواجهة النفوذ الروسي التقليدي، فإن الامر نفسه يمكن ان يقال حول الحرب ضد العراق. فالهدف المباشر هو اسقاط النظام، ولكن الهدف غير المباشر هو السيطرة على نفط العراق، بحيث يشكل مع نفط الكويت ركيزة اقتصادية استراتيجية تمكن الولايات المتحدة من التعامل مع جميع دول الخليج من موقع قوة تمكنها من تقديم طلباتها وفرضها على تلك الانظمة، من دون خوف على مصير امدادات النفط. وهذا امر من شأنه ان يدفع اية قوة خليجية الى التفكير بعمق قبل منح الولايات المتحدة اي تأييد لحربها ضد العراق.

واذا حدث ونشبت تلك الحرب، فان مواقف جهات اخرى يجب ان ترصد لمعرفة المدى الذي يمكن ان تذهب اليه مثل هذه الحرب.

ماذا سيكون موقف ايران؟ هل ستقف مراقبة تنتظر تدمير العراق، وفرض السيطرة الاميركية عليه، بينما هي تعرف انها ستكون المحطة الثانية في تلك الحرب المفتوحة؟ ثم اذا كان اسقاط نظام العراق قضية سياسية ومعنوية للولايات المتحدة، بسبب ضعف قوته العسكرية بعد عشر سنوات من الحصار والتفتيش الدولي، فان اسقاط نظام ايران هو هدف عسكري فعلي بسبب تمكن ايران من بناء قوة عسكرية ذاتية ذات وزن، ومن اجل منعها من بناء صواريخ بعيدة المدى قادرة على تهديد اسرائيل اذا ما فكرت بضرب المفاعل النووي الذي يجري بناؤه في منطقة بوشهر.

ايضا .. ماذا سيكون موقف الانتفاضة الفلسطينية؟ هل ستجلس هادئة بانتظار فرض الهيمنة الاميركية الكاملة والمباشرة على المنطقة، ليتم بعد ذلك مطالبة السلطة الفلسطينية بقبول الحل الاميركي الاسرائيلي للقضية الفلسطينية؟ ام انها ستحاول استغلال الظرف لتحسين وضعها النضالي على الارض؟

ايضا .. ماذا سيكون موقف حزب الله، وهو الموضوع ايضا في دائرة الهدف، هل سينتظر ضرب القوى الاكبر ليصبح ضرب القوى الاصغر بعد ذلك امرا سهلا للغاية؟

وسوريا والاردن.. ماذا سيكون موقفهما اذا اندلعت مثل هذه الحرب؟ هل يستطيعان ان تبقيا بعيدتين عن النار المشتعلة؟ هل يستطيعان ان يبقيا بعيدين عن تأييد ودعم حلفائهما، وهم هنا حلفاء متناقضون؟

تعني هذه الاسئلة كلها شيئا واحدا، وهو ان الحرب ضد العراق اذا نشبت ستشعل قطاعا واسعا من المنطقة العربية عسكريا، وستشعل قطاعا واسعا آخر من المنطقة العربية سياسيا.

ثم تأتي ازمة الوضع الدولي لتزيد من درجة التعقيد في صورة الوضع كله.

لقد برزت في الاسابيع الاخيرة معارضة اوروبية فريدة من نوعها للسياسة الاميركية. تركزت هذه المعارضة على ثلاث مسائل:

اولا: معارضة النزعة الاميركية العسكرية في معالجة المشاكل العالمية، ومنها الخطط العسكرية ضد العراق وايران.

ثانيا: معارضة التصرف الاميركي الاحادي من دون اعتبار لآراء الحلفاء الآخرين.

ثالثا: اعتراض واضح على سياسة الولايات المتحدة في معالجة القضية الفلسطينية، وتقديم دعم مطلق للاحتلال الاسرائيلي ولحكومة آرييل شارون، مع تقديم ادانة مطلقة لمقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الاسرائيلي.

ان ما يحرك اوروبا في هذه المعارضة، انها تمتلك تصورا لادارة شؤون العالم، يقوم على قاعدة انسانية تبحث في قضية الفقر ودوره في نمو نزعات الارهاب في العالم، وتبحث في قضية البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، واندفاعهما الى معالجة الشؤون الاقتصادية العالمية بطريقة تقود الى كوارث شاملة، على غرار ما حدث في الارجنتين. وبالمقابل ترى اوروبا ان مصالح اساسية لها قد تتضرر من نزعة واشنطن العسكرية ضد العراق، فالحرب قد تعرقل وصول امدادات النفط اليها، والسيطرة الاميركية على النفط ستؤدي بالضرورة الى تحكم الولايات المتحدة بالقرار السياسي الاوروبي من خلال الضغط والابتزاز، وهو ما ترفضه وتقاومه بالصورة التي نراها. واذا كان البعض يميل الى التقليل من اهمية المعارضة الاوروبية، لأنه لا يزال متأثرا بقوة الهيمنة الاميركية العالمية، فإن هذا الميل ربما يحتاج الى اعادة نظر. فالغضبة الاوروبية هي غضبة بين الحلفاء، وهذا يضفي عليها نكهة خاصة، وهي غضبة شاملة (باستثناء بريطانيا)، وهي الاولى من نوعها منذ انتهاء الحرب العالمية الاولى، ولأنها الغضبة الاولى من نوعها فلا بد من دراستها بتأن، والبحث عن جذورها العميقة التي قد تجعل منها مقدمة لاحداث اخرى.

ان المغامرة الاميركية المنتظرة مغامرة خطرة، ونتائجها لن تكون بالضرورة مثل نتائج حرب العام 1991، والتحالف الدولي بشأنها تحالف مهزوز، والحجج الاميركية ضد العراق مشكوك فيها. ولكل هذا فإن المسؤولية الرسمية العربية كبيرة، اذا لم نقل انها مسؤولية تاريخية.