المسلمون بين نهاية التاريخ وصدام الحضارات

TT

نشرت مجلة «نيوزويك» الأمريكية واسعة الانتشار، بتاريخ 2001/12/25، مقالين لاثنين من كبار المفكرين الأمريكان الذين يساهمون مساهمة فاعلة في صياغة الرأي العام الأمريكي والأوروبي بشكل عام، هما، «فرانسوا فوكوياما» و«صامويل هانتينغتون»، وفوكوياما هو مؤلف كتاب «نهاية التاريخ والرجل الأخير»، الذي أثار ضجة كبيرة في الغرب، وجادل فيه المؤلف بأن التاريخ قد بلغ نهايته من ناحية تطوير المجتمعات الإنسانية، وقد بلغ ذروته في الديمقراطية الليبرالية المعاصرة ورأسمالية اقتصاد السوق.

أما هانتينغتون، فهو مؤلف كتاب «صدام الحضارات»، الذي بيّن فيه بأن الصدام بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية هو حتمية لا بد من حدوثها، ودلّل على ذلك من الاستقراءات التاريخية وطبيعة الصراع ومن النمو السكاني، وقد أثار هذا الكتاب كذلك ضجة كبيرة في الغرب من حيث النتائج التي توصل إليها وجعلها حتمية الوقوع.

أما المقالان اللذان نحن بصدد الحديث عنهما «هدفهم العالم المعاصر» لفوكوياما، و«زمن حروب المسلمين» لهانتينغتون، فقد جاءا في زخم الأحداث المتسارعة في العالم اليوم وضمن الحملة الأمريكية على الإرهاب، ليؤكد فيهما المفكران نظريتهما التي سبق أن بشّرا بها، لكن بتطويع الأحداث المعاصرة وتأويلها بعيداً عن الواقع، وباستخدام شريحة صغيرة جداً من العالم الإسلامي بعيدة كل البعد عن التوجه العام لعموم المسلمين واعتبارها تمثيلاً صادقاً للإسلام والمسلمين، ثم الوصول إلى نتائج خطيرة عن المسلمين يتم تغذيتها في عقول وأذهان وعاطفة الشعب الأمريكي والشعوب الغربية.

أما الخطأ الثاني، الذي وقع فيه المفكران، الذي لا يقل خطورة عن التعميم المخل، فهو تصنيف العالم الإسلامي والعالم الغربي إلى الرجل الشرير والرجل الطيب، فالرجل الشرير (العالم الإسلامي)، هو الذي يوجه الضربات وينشر الشر ويتآمر، بينما الرجل الطيب (العالم الغربي)، هو الذي يتلقى الهجوم والضربات ويحصد الشر والمؤامرات، في الوقت الذي يسبغ فيه على العالم من خيره وبركاته وينشر المحبة والسلام في ربوعه، ولا أظن منصفاً يقر بمثل تلك الأدوار المسرحية التي تجري في عالمنا اليوم.

أما الخطأ الثالث، فهو في تركيز الكاتبين على ردة الفعل بعيداً عن الفعل نفسه، أو اقتطاع حدث من الأحداث بعيداً عن ملابساته وظروفه وأسبابه، ثم التعليق عليه والوصول إلى نتائج كبيرة بناء عليه، ولا يعني ذلك أننا نبرر ما جرى للولايات المتحدة من أعمال إرهابية، فقد أدنا هذا العمل واعتبرناه إجراماً بحق البشرية، وهدماً لمبادئ الدين والعقل، وتشويهاً لصورة الإسلام الحقيقية ولا يفعله عاقل، لكن إذا أردنا إلقاء الضوء على الصورة المتكاملة، فلا بد لنا من ربط الأحداث بالسياسة الخارجية الأمريكية وسياسة الكيل بعشرين مكيالا، ولا بد لنا من ربطه بالكيان الصهيوني الذي لا يُسأل عم يفعل، بل يتم مباركة بطشه بالمدنيين الآمنين في فلسطين وإمداده بالمال والسلاح والصمت العالمي تجاه ما يقوم به من إجرام، ولا بد لنا من الحديث عن العولمة الاقتصادية والأمنية والسياسية التي تخنق الشعوب الفقيرة في العالم وتسبب لها الذل والهوان وتعيد أمجاد الحقبة الاستعمارية التي عانت منها أمتنا الأمرّين.

القضية الرابعة في سلسلة الأخطاء التي وقع فيها الكاتبان، هي وضع تصوّر مسبق حول العالم الإسلامي، بل وحول التفسير الكوني للأحداث، مبني على نقص فاضح للمعلومات عن الإسلام وعن المسلمين، ثم تعميم هذا على كل ما يحدث في العالم الإسلامي وفي الكون، وتفسير الحوادث الكونية المختلفة بحسب هذا التصور. ولا شك في أن اعتبار فوكوياما التاريخ قد بلغ نهايته عندما وصل إلى محطة الديمقراطية الليبرالية المعاصرة ورأسمالية اقتصاد السوق، هو تفسير ناقص ومخلّ للتاريخ وللمستقبل، إذ ان الديمقراطية الليبرالية الغربية تمثل اجتهاداً بشرياً لتنظيم شؤون الإنسان، وهي بحد ذاتها غير ثابتة، بل متغيّرة، كما أنها قد تلقت الكثير من النقد من مفكرين غربيين وشرقيين أمثال ماركس وانجلز، وكثير من المفكرين المسلمين. أما رأسمالية اقتصاد السوق، فهي قد انتصرت على الفكر الاشتراكي، لكن ذلك لا يعني أنها الحل الأمثل للعالم، بل انها تعاني من عيوب فاضحة وتتسبب في الكثير من الأزمات الاقتصادية في العالم والاضطراب الحاصل اليوم.

أما هانتينغتون، فقد بنى نظريته على حتمية الصدام بين الإسلام والغرب، وقد يكون هذه جزءاً من المعتقدات اليهودية والنصرانية و«معركة الهرمجدون» في التعاليم التلمودية، كما أنها قد تكون في مرحلة من المراحل التاريخية، ثم تليها مراحل أخرى، لكن اعتبارها نتيجة حتمية وتفسير جميع الحوادث على أساسها فلا شك في وجود شطط فيه لا يخفى على المحلل البصير. إن الدين الإسلامي لا يعتبر نظرية الصدام الحضاري حتمية الحدوث، وإنما في بعض المراحل التاريخية، والأصل فيه هو (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)، كما أننا إذا سلّمنا بهذه النظرية فإننا سنكون كمن قال: «قدري أن أموت غريقاً ثم ألقى بنفسه في البحر».

200 مليون أصولي لكننا نجد في ثنايا الكلام الوارد في المقالين، ونلمس عبارات كثيرة جارحة، تدل على عدم استيعاب الكاتبين للمفاهيم الإسلامية الأساسية، مثل قول فوكوياما: «فإن الأصوليين مثل الوهابيين السعوديين وأسامة بن لادن أو طالبان»، فهو هنا لا يفرق بين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ التي تتبناها السعودية، وبين دعوة أسامة بن لادن، بل يجعلهما في بوتقة واحدة، ولعل هذا الفهم الخاطئ هو الذي دفع الإعلام الغربي إلى مهاجمة المملكة العربية السعودية بحجة أن مناهجها تشجع على الإرهاب، ونسي بأن منهج الدولة السعودية وحكامها وعلمائها الدينيين، يمثل منهج الاعتدال ورفض التطرف بجميع أشكاله، كذلك يقول فوكوياما: «وإذا سلمنا بأن الصراع الأساسي ليس مع الإرهابيين الفعليين فقط، ولكن مع الأصوليين الإسلاميين الذين يرون العالم كصراع مانوي (صراع بين النور والظلام) بين المؤمنين والكفار، فإننا لا نتكلم عن مجموعة صغيرة منعزلة من المتعصبين. ويقدر المختص بشؤون الشرق الأوسط دانييا بايبيس عدد هؤلاء بـ 10 إلى %15 من العالم الإسلامي»، ويقول: «إن الصراع الحالي ليس ببساطة معركة ضد الإرهاب ولا ضد الإسلام كدين وحضارة، ولكنه صراع ضد الفاشية الإسلامية، أي العقيدة الأصولية غير المتسامحة التي تقف ضد الحداثة والتي انبثقت حديثاً في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي».

وهذا الكلام فيه كثير من المغالطات، منها أنه لم يكتف بالإشارة إلى من يقومون بالأعمال الإرهابية ليحذر منهم، بل انه قد وسع الدائرة ليضيف لها مصطلحا جديدا وهم الأصوليون الإسلاميون الذين يرون العالم كصراع بين المؤمنين والكفار. وقد يقول قائل: بأن قلة قليلة تنطبق عليهم تلك الصفات في العالم الإسلامي، إذ ان الإسلام لا يعترف بأن الأصل هو الصراع، ولكن الدعوة بالحسنى، لكن فوكوياما يعود ليخبرنا بأن هؤلاء الأصوليين ليسوا قلة وإنما يصل عددهم إلى %15 من سكان العالم الإسلامي، أي حوالي 200 مليون مسلم، بل إنه ليفتخر بضم جميع مواطني السعودية معهم، لأنهم يؤمنون بالوهابية التي لا يعرف الكاتب مفهومها وما تدعو إليه، والأدهى من ذلك هو أن يستعير مصطلحاً سياسياً بعيداً كل البعد عن الفهم الإسلامي، مصطلح الفاشية، ليصف به الأصوليين الإسلاميين، ويرى بأن الأسباب الحقيقية لهذا التطرف هو معاداة الحداثة دون أن يشرح لنا المقصود بالحداثة: هل هي النهضة والتقدم أم السير في ركب الدول الغربية؟ وما هي مظاهر العداء في عالمنا الإسلامي للحداثة؟

الإسلام والحداثة أما هانتينغتون، فيرى بأن الانبعاث الإسلامي اليوم يأتي بمعظمه كردة فعل على موجة الحداثة والعولمة، ويرى أنه في شتى أرجاء العالم الإسلامي لا سيما في صفوف العرب، هناك شعور كبير بالظلم والامتعاض والحسد والعدائية تجاه الغرب وغناه وقوته وثقافته، كما يرى بأن معدلات الولادة المرتفعة في معظم الدول الإسلامية أدت إلى (فورة فتية) مع أعداد كبيرة من الشباب معظمهم عاطلون عن العمل ينضمون إلى منظمات أصولية وأحزاب سياسية وجماعات عسكرية، وهو من مصادر العنف السائد ذي الطابع الإسلامي. ونرى كذلك مغالطات كثيرة في كلام هانتينغتون، إذ ان الانبعاث الإسلامي ليس مقتصراً على الدول الفقيرة، إنما هو ظاهرة عالمية وهو ليس ردة فعل على الحداثة، إذ ان الحداثة مطلوبة لكل صاحب انبعاث ونهضة، وأن الظلم هو محرك رئيس في ردة الفعل تجاه الغرب، ولكن لا يمكن إضافة عامل الحسد تجاه غنى الغرب وقوته وثقافته، إلى عوامل الانبعاث الإسلامي. اذ ان المسلمين لا يحقدون مثلا على دول مثل اليابان بسبب غناها وثقافتها.

أما ربط العنف في العالم الإسلامي بمعدلات الولادة المرتفعة، فهو تفسير قاصر، فلماذا لا يحدث مثل ذلك في بلاد كالهند أو الصين أو كوريا المكتظة بالسكان؟، ولماذا لا يحدث ذلك في البلاد الافريقية التي يمزقها الفقر والجوع؟..

ما ذكرناه هنا، إنما هو تحليل بعض الكتابات الأمريكية التي لا نعتقد بأنه مجمع عليها أو تمثل الرأي العام الأمريكي، ولكنها تجد الصدى والقبول من الكثيرين وتوجه الرأي العام الأمريكي وجهة خاطئة.

* كاتب كويتي