حكاية صديق شجاع

TT

تعرفت على خزامى نجد والفنان صالح العزاز في يوم واحد، وذات رحلة صحراوية حملتنا الى وادي مرخ لنتفقد احوال اولاد عمنا الحطيئة توقفنا عند سفوح طويق، وفيما الرمل الاحمر الناعم يتسرب حنونا ومراوغا بين الاصابع وينقلني عدة قرون الى الوراء متأملا في مصائر من عبروا، وذابوا في الفضاء بعد ان نصبوا خيامهم وأقاموا اثافيهم فوقه كان صاحبي صالح العزاز يوجه عدسته في الاتجاهات كلها ليقتنص سحر تلك اللحظات، حيث يتعانق الاحمران، الرمل وغروب الشمس.

ولاحقا صعدنا الى سيارته وجلال الصمت يلفنا بعباءته فلم نتحدث بحرف إلا بعد ان تجاوزنا الزلفي والسمينة بلدي عثمان العمير، ومالك بن الريب.

لحظات الصمت تلك تكررت بعد سنوات عدة، ونحن عائدان من العشاء الاخير لعوني بشير، وكنا قد ذهبنا لنسامره في ايامه الاخيرة، ونحن ندرك انه قد بقي له من الحياة اسبوع، فتنفسه صار صعبا وانبوبة الاوكسجين لم تعد تفارقه، وزوجته الصابرة تكابد، وتتجلد، وتحاول مثله ان تقنعنا بأن كل شيء على ما يرام واننا يجب ان نبقى للعشاء، وبقينا فمن يرفض لمودع طلبا ويومها نظرنا في كل الاتجاهات، كما نظرنا في وجوه بعضنا البعض وكلنا يدرك انه العشاء الاخير.

وفي «الاندر جراوند» كنا ننتزع الكلمات «انتزاعا» وكلانا يتمنى لو سكت صاحبه فغصة الوداع الاخير ومهما تحايلت عليها ليست اقل استثارة للتأمل من المصائر التي عبرت فوق الرمل الاحمر في طويق، حيث كل من عبر راود وهم الخلود عن نفسه وظن انه مقيم فوقها ما اقام عسيب.

في المرة الثالثة كان عليّ ان اعيش لحظات الصمت وحدي، فقد علمت من خلال مقال مليء بالتفاؤل نشره في «الشرق الاوسط» بعد ان صحا من عقاقيره وبنجه، ان صالح اصيب بالمرض ذاته الذي اودى بحياة صديقنا المشترك عوني، وفي ما كنت اقرأ عن شجاعته في مواجهة الموقف كنت اتحسس حبيبة ظهرت فجأة في العنق، واسأل نفسي هل انت يا نفس صاحبة الدور بعد العشاء الاخير، وهل هذه الحبيبة اول الغيث المقيت...؟

ولم اشأ ان أهاتفه حتى أتأكد وهي مرحلة طالت، وكنت احرسها بصمت وسرية لأني من الذين يعتقدون ان المرض في بعض وجوهه كالحب شديد الخصوصية، وان على الانسان ان يواجهه منفردا ليوفر على اصدقائه ومحبيه القلق، وعلى نفسه نظرات الشفقة، فليس على وجه الارض ما هو أقسى من نظرة شفقة عند من يكره تلك العاطفة التي تنتمي الى فصيلة العجز عن العطاء، وهي لا ترفع المعنويات بقدر ما تحبطها.

وما بين أواخر آب ـ اغسطس الماضي حين اكتشف صالح مرضه ويناير ـ كانون الثاني الماضي حين نضجت حبة العنق وصارت كالعنب وحان قطافها، مرت احداث جسام بينها تاريخ الحادي عشر من سبتمبر ـ ايلول ووجدت صالح العزاز يحكي للمرة الثانية عن روعة الحياة، وعن عظمة ان يكون للانسان وطن يحبه، وكان لي وطن اشتاق اليه ولا يعرف ما بي، ومخاوف داخلية أؤجل مواجهتها، فالاطباء يقولون ان الحبة قد تزول تلقائيا لكنهم يتخوفون من ان تكون ورما خبيثا، فحتى الاورام فيها الطيب والشرير، وبعد العشاء الاخير صار حجم الوهم اكبر دوما من حجم الحقيقة.

واخيرا حانت ساعة الحسم، واسلمنا العنق المريب والمرتاب لمبضع الجراح، وحين فتحت عيني بعد رحلة المخدر، واروني عنبة ناصعة البياض تسبح في سائل كدر، واخبروني انها من الورم الحميد، تذكرت على الفور وقبل ان افرح صالح العزاز وقلت حان وقت مهاتفته لاسأله من أين أتى بكل تلك الشجاعة وهو يواجه ورما خبيثا في اخطر الامكنة، ونحن قتلنا الخوف من عنبة في العنق، وبعد ايام وفيما كنت اطلب رقم العزاز من الزميل محمد العوام واحكي له مخاوف الاشهر الاخيرة من تداعيات العشاء الاخير خطر لي ان قصة شجاعة العزاز في مواجهة المرض يجب ان تروى علنا وبكل تفاصيلها المشحونة بالألم والصبر والارادة. وها نحن نتمنى عليه ان يكتبها يوما بيوم لا ليرسم جداريته بقلمه كما فعل محمود درويش انما لينعش بحكاية صموده في وجه المرض كما فعل سعد الله ونوس آمال بشر كثر يظنون ان كل شيء قد انتهى بمجرد ان يخبرهم الاطباء باسم ذلك المرض اللعين.

اني فخور بك ايها الصديق الشجاع ولا يكفي ان اعرف وحدي والمقربون من اصدقائنا حبك العظيم والعميق للحياة، فهل نطمح بقراءة يومياتك ما بين نيفادا وهيوستن لنعيش معك الولادة الثانية لفنان شجاع بهرتنا قصة صموده الانساني في وجه الألم ومتى..؟ وأين...؟ في اميركا في عز احتدام اشهر موجة كراهية في التاريخ.