صدقية الإصلاح السياسي

TT

لا يزال مفهوم التغيير في العالم يخضع لمعايير الشكل دون المضمون، اذ ما أيسر أن تغير العناوين واللافتات والهياكل، بينما من الصعب حقاً أن تغير الوظائف والأدوار والقيم الحاكمة لعلاقات القوى في المجتمع. وقد شاعت عنا تهمة تقديم الشكل على المضمون على نحو دفع بعض الباحثين الغربيين ممن يتابعون تطورات الأوضاع السياسية في بلادنا إلى ابتكار مصطلح «الديمقراطية المجففة»، أي الخالية من مضمونها الليبرالي. فقد كان الاعتقاد السائد أن الديمقراطية لها تعريف محدد وركائز واضحة، تتلخص في سيادة الأمة وحق الناس في المشاركة والمساءلة والاختلاف.

هذا المفهوم ظل سائداً إلى بداية التسعينيات، حين جرى تفكيك ثم انهيار الاتحاد السوفيتي ورفع شعار «التعددية» الذي اعتبر حجر الزاوية في بنيان الأنظمة الديمقراطية الجديدة التي قامت على أنقاض النظام الشيوعي، في روسيا ودول ما سمي بالكتلة الشرقية، وقد شاع ذلك المصطلح آنذاك، حتى اعتبر تجسيداً لصيحة الحرية التي ترددت أصداؤها في مختلف أنحاء العالم، وفي العام الثالث بوجه أخص، الذي هو الأوفر حظاً في حصته من الأنظمة الاستبدادية.

وازاء قوة الدفع التي تمتع بها الشعار، فقد كان متعذراً مقاومته في دول العالم الثالث، التي استجاب بعضها للنداء وجرى فيها التحول إلى التعددية والديمقراطية بدرجة أو أخرى، بينما آثر البعض الآخر أن يلتف على الشعار ويحتال عليه. بمعنى أن تلك الدول الأخيرة عبرت عن تجاوبها وحماسها الظاهري لدعوة التعددية، فغيرت من القوانين والعناوين والأشكال والمؤسسات، وبذلت جهداً كبيراً في تصميم «الديكور» الديمقراطي، لكنها أبقت على كل ما كان قائماً من احتكار السلطة وانفراد بالقرار، ومصادرة حق الاختلاف والحريات بوجه عام.

شاع ذلك النمط حيناً من الدهر، حيث سمح باقامة الأحزاب السياسية واجراء الانتخابات، وتم التصريح بالعمل لمنظمات حقوق الانسان، وللنقابات المهنية والاتحادات الطلابية والعمالية. ذلك كله تم على الورق، وترجم على اللافتات والأبنية. لكنه لم يغير شيئاً من خرائط الواقع السياسي، الأمر الذي يعني أن كل الأشكال أقيمت، لكن الوظائف حجبت أو صودرت، ومن ثم فقد تم من الناحية العملية تفريغ كل الاجراءات التي اتخذت على الصعيد «الديمقراطي» من مضمونها الحقيقي والأصيل.

هذا التطور لاحظه أولئك الباحثون فعمدوا إلى التفرقة بين ديمقراطية حقيقية، يقترن تطبيقها بالالتزام بقيمها المتعارف عليها، وأخرى شكلية أقامت الهياكل والعناوين وصادرت المضمون، ومن ثم احالتها إلى ديمقراطية مجففة، مجردة من المشاركة أو التسامح السياسي.

ثمة مدرسة أخرى في التغيير لها نموذجها في العالم العربي، سارت على ذات الدرب، بأسلوب مغاير وهي التي عمدت إلى تغيير اسم الدولة، وأشهر السنة، وأسماء مؤسسات الحكم، ثم اتجهت إلى صبغ الأبنية والواجهات والمكاتبات الرسمية بلون واحد، تعبيراً عن الالتزام بعناوين وثائق السلطة ومشروعها الذي تجسد في كتب حملت ألوانا بذاتها. في الوقت ذاته فإن فقرات تلك الكتب تحولت إلى أقوال مأثورة، مبثوثة في مختلف أدبيات النظام وأناشيد المدارس، وإلى لافتات معلقة على كل الجدران... إلخ.

كل ذلك حدث ولم يتقدم المجتمع خطوة إلى الأمام، بل انه تراجع خطوات إلى الوراء. رغم أن اللافتات المعلقة على الجدران وفرت للناس كل ما يريدون، من فرص العمل والرخاء والمسكن إلى الأمن والمشاركة الشعبية والجماهيرية، الأمر الذي يضعنا بامتياز أمام نموذج لوهم التغيير، الذي فيه من الجلبة والضجيج ودغدغة المشاعر والأحلام أكثر مما فيه من أي شيء آخر.

في ظل المبالغة في الشعارات، فإن الكلمات فقدت معناها. إذ حينما يرى الناس أن أحلامهم كلها معلقة في الهواء، ثم يتطلعون حولهم وينظرون إلى مواقع أقدامهم، فلا يجدون لتلك الشعارات أثراً فإنهم يعذرون إذا أداروا ظهورهم لما يقال واعتبروه لغواً لا طائل من ورائه.

وجيلنا يذكر كيف أن سنوات الخمسينيات والستينيات كانت مشحونة بتعبئة من نوع خاص، أعلت كثيراً من شأن الجمهوريات واعتبرتها ثورية وتقدمية، بينما حطت من قدر الملكيات التي اقترنت في الأذهان بالرجعية والتخلف وغير ذلك. واذ صدق كثيرون هذا الكلام، ونشأ جيل تشكل وعيه على ذلك النحو، فان التجربة أثبتت أن النظم التي تحولت من ملكيات إلى جمهوريات تراجعت أحوالها ولم تتقدم، وبعضها كان أسوأ من سابقه، والبعض الآخر أصبح يتحسر على أيام الملكية. ليس هذا فحسب، وانما سعى حكامها «الجمهوريون» و«التقدميون» لأن يصبحوا ملوكاً من الناحية العملية. فيشغلون مناصبهم حتى وفاتهم، وربما ورثوا المنصب لأبنائهم.

لقد أدركنا بعد فوات الأوان أن العبرة ليست بلافتة الجمهورية أو الملكية، ولكنها بقيم الحكم السائدة، وبما يمارس على أرض الواقع من احترام للانسان وحقه في المشاركة وحقه في الحياة الكريمة. والأمر كذلك، فلم يعد يهم كثيراً اسم النظام ولا الرايات التي يرفعها، وانما أصبح الأهم من المسميات والرايات ان يلمس الناس آثار التغيير في حياتهم وعلاقاتهم ، ومباشرتهم لحقوقهم المدنية والسياسية، بل انني لا أتردد في القول أنه كلما تشدد النظام في تغيير الأشكال، كلما كان ذلك دالاً على عدم صدقيته في أحداث التغيير في الموضوع.

أذكر أنه حين تعالت الأصوات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي داعية إلى ضرورة احترام حقوق الانسان، فان احدى الدول المغاربية قررت أن تأخذ زمام المبادرة في الاستجابة لتلك الدعوة، فحولت حقوق الانسان إلى مادة تدرس في المدارس والجامعات، وأنشأت قسماً لحقوق الانسان في كلية الشرطة وادارة خاصة في كل مخفر، ولجاناً لحقوق الانسان في كل وزارة، ومجلساً أعلى لذلك الغرض برئاسة أكبر الرؤوس في البلد، ولم تكتف بذلك وانما سارت وسائل الاعلام الحكومية في الموكب، فمضت تهلل للتظاهرة، من خلال برامج التلفزيون ومقالات الصحف، والندوات التي تعقدها لهذا الغرض بين الحين والآخر. حدث ذلك كله في الوقت الذي كانت انتهاكات حقوق الانسان في البلد ذاته تحتل حيزاً كبيراً من التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية! ثمة واقعة أخرى عميقة الدلالة في السياق الذي نحن بصدده، حدثت قبل أسبوعين، في احدى الدول العربية التي ارتفعت فيها خلال السنة الأخيرة وتيرة الدعوة الى الاصلاح السياسي، على نحو أوحى للناس بأن عهداً جديداً قد بدأ، وأن مرحلة غير مسبوقة من الوفاق الوطني لاحت في الأفق. ورغم أن عدة اجراءات اتخذت في ذلك الاتجاه، تعلق بعضها بالافراج عن المعتقلين السياسيين، وانصب البعض الآخر على عودة المثقفين من الخارج إلا أن الممارسة اليومية اللاحقة دلت على أن تلك الاجراءات كانت من قبيل «بالونات» الابتهاج التي أعلنت في لحظة العرس واستهدفت اشاعة شعور بالفرحة في لحظة بذاتها، بعدها لم تلبث «ريمة ان عادت إلى عادتها القديمة».

إذ بينما اصداء زغاريد الفرح ما زالت ترن في الآذان، استدعى أحد كبار المسؤولين في العاصمة عدداً من الرموز السياسية الشعبية المحسوبة على المعارضة، وابلغهم ان الولايات المتحدة طلبت تسليمهم في اطار حملة مكافحة الارهاب، ولكن السلطات المعنية رفضت تسليمهم، وتعهدت بحمايتهم في داخل البلد، ولكن سلامتهم غير مضمونة خارجها، ولم تمض ساعات حتى شاع الخبر بين الناس، ووصل إلى مسامح المسؤولين في السفارة الأميركية، الذين سارعوا إلى نفي الواقعة، واعلان عن أنه لا يوجد أي مواطن من أبناء البلد على قائمة المطلوبين من جانب واشنطون. وازاء ذلك صدر بيان عن حكومة الدولة العربية نفى ماصدر من جانب المسؤول الكبير من تصريحات. وتبين في وقت لاحق ما هو أفدح. ذلك أن جهات معينة في الحكومة ذاتها كانت قد قدمت إلى واشنطون قائمة بأسماء مائة شخص من المعارضين، اتهمتهم بالارهاب! («القدس العربي» ـ 2/13).

تصرفات من هذا القبيل ـ اضافة إلى ممارسات أخرى مشابهة ـ أفقدت مشروع الاصلاح السياسي صدقيته وجوهره. ذلك أن الاصلاح الذي تفاءل به كثيرون ظل هتافاً وعنواناً تسوقه وسائل الاعلام ويتشدق به المتحدثون والخطباء في المحافل والمنتديات، وسقط في أكثر من اختبار على صعيد الواقع.

لست ضد تغيير الأشكال واللافتات والعناوين، لكن فقط أقول ان العبرة ليست في اللقب الذي تحمله أو اللافتة التي تقف تحتها، وانما الأهم من ذلك هو حقيقة الموقف من الحريات الأساسية في المجتمع. من ثم فمن أراد اصلاحاً سياسياً حقيقياً فعليه أن يثبت صدقيته في مجال الحريات أولاً، والا فكل ما يرفع من شعارات أو يشهر من القاب سيظل بلا قيمة، ولن يعني شيئاً عند الناس.