هل نحن مصابون حقاً بـ «بن لادن»!

TT

ونحن هنا تعني عوام «دار الاسلام» من طنجة الى جاكارتا، واليهم عوام من نواحي «عالم الجنوب» البائس، وبعض من «عالم الشمال» الغني..! والعوام هنا لا ترد من علو نخبوي / خواصي، وانما ترد بمعناها الاصطلاحي المحايد، أي «عامة الناس».

أتحدث عن (نحن) في دار العرب والاسلام الذين باركوا فعلة «بن لادن» ورفعوا صوره متظاهرين علنا، والذين باركوه سرا، تابعوا اخباره وتداولوها عبر الانترنت ورسائل الهواتف النقالة الذين ابعدوا عنه التهمة ونسبوا جرمها الى آخرين: الموساد، السي آي ايه، مافيا المخدرات، اليمين الامريكي، الجيش الأحمر الياباني أو قوى غامضة تحكم العالم.. الخ! والذين لكنوه فصاروا يعرفون بـ «بني لكن»! أقصد الذين ادانوا قتل المدنيين (لكنهم) استدركوا بـ «لكنات ـ جمع لكن» تبرر ما ناب امريكا بما ارتكبته امريكا وترتكبه في حق شعوب العالم، من الهنود الحمر وهيروشيما ونجازاكي الى فيتنام وامريكا اللاتينية والعراق مرورا بالفلسطينيين بواسطة الاسرائيليين! قال لي مهندس كومبيوتر الماني: كثير من الالمان تذكروا عند انهيار برجي مركز التجارة في نيويورك مدينة «درسدن» فلورنس الجرمان على جبال الألب التي دمرت بكاملها بواسطة 800 طائرة امريكية وبريطانية قنبلتها طوال يومين على مدار الساعة، فقتل ما بين مائة ألف الى مائتين وخمسين ألفا كما تذكر تقديرات مختلفة! لكنه استدرك: «لكن لا شيء يبرر ما حدث لامريكا..» حتى (عند) الالمان هناك مصابون بشيء من «بن لادن» وبـ «لكن» ـ وقس على ذلك: هل خلل غبار انهيار البرجين التوأمين واختفائهما من غابات ناطحات سحاب نيويورك ذات صباح خريفي مشمس، تذكر ما تبقى من هنود حمر تاريخهم الشقوي عن هولوكوست الابادة الجماعية لاسلافهم طوال قرون متصلة، حيث تتحدث التقديرات التاريخية عن ابادة سبعين مليون شخص من السكان الاصليين للعالم الجديد! لكن لا شيء يبرر ما حدث لامريكا! وهل تذكر السود كونتا كونتي والاغلال والسياط ومشانق الكلوكلوكس كلان! وهل تذكر اليابانيون قنبلة هيروشيما التي قتلت، في ثوان، فوق 80 ألف انسان، وجرحت فوق المائة الف انسان، و«الطفل المقدس» الاسم السري لقنبلة نجازاكي التي وزنت حمولتها ما يعادل اربعين ألف طن من مادة الـ«تي. إن. تي»، والتي دمرت كل ما وجد في مساحة ميلين مربعين وقتلت أكثر من 35 الف انسان واكثر من ضعفهم جرحى ومشوهون! وهل تذكر الفيتناميون ثلاثة ملايين قتيل ونحوهم جرحى ومشوهين، والغابات المحروقة بالنابالم والاسلحة الكيماوية! وهل تذكر الامريكيون اللاتينيون امريكا شفيعة الديكتاتوريات العسكرية من سوموزا الى بينوشيه! لكن لا شيء يبرر ما حدث في 11 سبتمبر.

وبالمقابل: هل تذكر الامريكيون خلل غبار انهيار البرجين: بيرل هاربور، غارات الكاميكازي اليابانيين..؟

عندما ابلغ بوش باصطدام الطائرة الاولى بالبرج اعتقد ان قائد الطائرة اصيب بنوبة قلبية، وعندما ابلغوه باصطدام طائرة ثانية بالبناية نفسها، صاح: لقد هوجمنا! فما الذي تداعى في ذاكرة العرب والمسلمين: وعد بلفور، اكاذيب لورنس العرب، خدعة سايكس ـ بيكو، احتلالات الغرب، انتداباته، نصف قرن من العدوان الصهيوني، المجازر من دير ياسين الى قانا، المرتكبة بواسطة السلاح الامريكي والتمويل والفيتو الامريكي، الـ اف 16 والاباتشي والصواريخ والقنابل الامريكية التي تدك بيوت الفلسطينيين..! حتى الذين أدانوا (من بين العرب) بن لادن، فعلا وفكرا، جملة وتفصيلا، ليسوا بمنأى عن الاصابة به على نحو أو آخر، فهو ليس مجرد شخص أو أشخاص معدودين يمكن لامريكا ان تطاردهم وتبيدهم ثم تفرك يديها مبتهجة، صائحة: انتهت المهمة، الآن.. العالم آمن! بن لادن وليد فكرة مختمرة في بؤس الفكر وفكر البؤس، وهذه الفكرة أبوها القهر وأمها الكرامة المهانة! وما الاسلام الا ذريعة لتلبيس نزعة الانتقام زيا ايمانيا كي يسوغ القتل ويجوزه باسم الدين! يوظف فقه الجهاد (المشروط في اصوله بضوابط اخلاقية وفقهية دقيقة) لصالح خيال الزعيم الشخصي واتباعه، ولخدمة مشروعهم السياسي المبني على الممارسة الفالتة للعنف، جاذبا اليه شبيبة مأخوذة بكاريزما الزعيم ـ المليونير الذي نبذ الرفاه ورضي بالكهوف منزلا!!. انه مجال مغناطيسي لخيال تعويضي محمول على وعد بـ «المدينة الفاضلة» على أرض افغانستان في عهدة طالبان، و«فردوس النعيم» في دار الآخرة! هذا الحلم التعويضي المزدوج (أرضي / سماوي، دنيا / آخرة!!) يقدم خلاصا نداها يدغدغ عواطف تلك الملايين من الشبيبة العاطلة (عملا وكرامة) من طنجة الى جاكارتا! شبيبة متروكة للمكبوتات والاكراهات، مهانة في عيشها وهويتها وكرامتها، ممزقة بين قنوط واقع مهين، واحلام يقظة معلقة على فرصة عمل وزوجة وشقة.. وكرامة..! وما أدراك ما الكرامة؟! ان بن لادن يسري في دورة ادمغتهم العاطفية! وانه عرف كيف يتوسل «مستودع العاطفة» الدينية الذي يغذي وجدانياتهم المحبطة، بشعور من الاصطفاء الذاتي كونهم مصطفين لاداء مهمة «مقدسة» تشعرهم بالتميز الفائق عبر الانتماء الى جماعة «مصطفاة» تمثل «الفرقة الناجية» التي في حسبانهم هي الناطق الرسمي باسم الارادة الالهية، وبالتالي فان غضبهم ترجمة لغضب الله! وغني عن القول ان الله في دين الاسلام شديد الغضب، لكنه غضب الله العادل! وانه لمن الخلط الماكر التوسل بصفة ألوهية مطلقة في ذاتها ولذاتها، لغرض في نفس بشرية خطاءة بطبيعتها، امارة بالسوء. صفاتها نسبية، تخالطها الاهواء والمصالح والرغبات والميول الانفعالية! انهم ينسبون غضبهم البشري العاطفي الغرضي الى غضب الله المعصوم عن الاهواء والرغبات والانفعالات والدوافع والغرائز..! ان غضب الله وجبروته ومكره وقهره الى غير ذلك، هي صفات الهية مطلقة لذاتها لا يحيط بها تفسير بشري، ولا تدرك الا بذاتها، فهي وقف على جوهرها، لا يخالطها شيء من خارجها ولا تبرر أعمال البشر وغرائزهم غضبا وجبروتا وقهرا ومكرا.. الخ! ان المنطق الاسقاطي التبريري في خلط الزمني بالأبدي، النسبي بالمطلق، الأرضي بالسماوي، البشري بالرباني، حكم الله بحكم البشر، هو اس أساسيات بيان خطاب الاسلام السياسي سواء تظاهر بالاعتدال أو كشف عن تطرفه الظلامي وعنفه الدموي. انه المنطق الاسقاطي الذي يدين السياسة، يسقط الشاهد على الغائب، ويستعمل كلام الله المطلق السمو لتسييد كلام السياسي (النسبي البراغماتي المصلحي الانتهازي المراوغ) لصالح مقتضيات اللعبة السياسية واساليبها الخبيثة بطبعها! ان خطاب الاسلام السياسي كيفما نقبته مذهبا مذهبا وجماعة جماعة هو خطاب استراتيجيات مكر ودهاء وحيل وأحابيل، كغيره من خطابات السياسة واستراتيجياتها، سواء كانت علمانية أو ليبرالية أو يسارية أو قومية.. الخ.

إذن، والحال كذلك، يمكن لـ «بن لادن» وغيره ممن يخطر على بالك أو لا يخطر على بالك من فقهاء Take away ان يخطفوا الاسلام لصالح اجنداتهم، تلك الاجندات التي هي، في التحليل الاخير، وصفة عاطفية مهتاجة لغضب محتقن تخثر عصابا دمويا على الأقربين، والابعدين، ضد ولي الأمر المحلي الذي أمره بيد ولي الأمر الاجنبي «النصراني»! ان ارهاب «بن لادن» الممارس بواسطة جماعته التابعة له مباشرة أو الجماعات المنضوية تحت لواء ماله أو تلك المأخوذة بفكرته التدميرية، ليس في حاجة الى رسائل مشفرة منه مدسوسة عبر «قناة الجزيرة» أو الـ«سي إن إن»، كما اشاعت آلة الدعاية الامريكية! ان الغرب (الامريكي تحديدا)، في تصور شبيبة مسلمة محبطة يرتسم، يرتسم في صورة (المهيمن، القاهر، الكافر، المعتدي، الصليبي)، عراب الوجود الصهيوني الذي يدنس مكان اسراء سيد الكائنات! وأبعد من هذا التوظيف الديني في ديار الاسلام، حيث هي الاسباب وافرة في مقت «عظيم الروم الامريكي»، يمكن ان نعثر على حالة انتعاش (بن لادنية) في جنبات الارض، من فوضويي اليونان وقومويي صربيا الى الارجنتينيين الحانقين على نظام الاقتصاد السياسي في بلادهم المشرفة على الافلاس، الى درجة العثور على تحليل يساري منتشر يرى في ضرب برجي مركز التجارة العالمي شيئا من الاخاء في العنف الثوري ضد رمز الرأسمالية المتوحشة! لقد كان انهيار مركز تجاري مالي (رمز الاقتصاد الحر والعولمة)، واليه قصم ظهر مركز عسكري في وزن البنتاغون (رمز القوة الكونية المهيمنة) عملا ارهابيا غير مسبوق، دل على عقل جهنمي خطط من حيث لا يتوقع احد لمشهد رعب كوني Live جسد لحظة حية من رؤيا «نهاية العالم» والتي جعلت أحد رؤوس الاصولية المسيحية الامريكية الكبار يباركها ضمنيا قائلا ما معناه: ان امريكا تستحق ما حدث لها بسبب انحلالها الاخلاقي!! والحال، ان بن لادن (: فردا، جماعة، قاعدة، قواعد، عواطف، فكرة، مشروعا) ليس هو الاسلام! الاسلام خارج اللعبة! انه (الاسلام) غير معني بتبريرات الدعاية الامريكية الممجوجة: «حربنا ضد الارهاب وليست ضد الاسلام». والاسلام غير معني في الوقت نفسه بفتاوى الجهاد التي ترمى على عواهنها! ان سبب حضور بن لادن بيننا هو في الاساس ناجم عن تعويلنا العتيد على انتظار البطل / المنقذ الطالع من تضخم روح الهزيمة فينا! انه معادل موضوعي لهذياننا المهتاج، وراء الذوبان في شخص يُحمل مسؤولية ما يجب ان نتحمله ونواجهه، لكننا لأننا لا نريد (أو لا نستطيع ان شئت) الاعتراف بقصورنا الذاتي، وكوننا نلتذ بجمودنا على الموجود الذي الفناه مكررا قرنا ينطح قرنا، ترانا أمام عجزنا عن تعقل واقعنا وقصورنا عن الاستجابة الخلاقة الفاعلة على تحديات عصرنا العلمية / العقلانية، نتخلى عن قوانا الذاتية الجماعية المتنوعة لصالح خيال شخص / فرد نسقط عليه خلاصنا العام ونتماهى فيه، على غراره، ونوكل اليه ما نرغب فيه، فنعلي من شأنه الى حد عصمه وتنزيهه عن الخطأ كي نغطي على ضعفنا وجهلنا وتبعيتنا! [email protected]