ومن الموضوعية ما قتل

TT

ما عرفناه، وحفظناه عن ظهر قلب، هو أن كل شيء إذا زاد عن حده، انقلب إلى ضده، وها هي الأيام تغدق علينا من معرفتها المزيد، لنتعلم أو لننتبه على الأقل إلى أن بعض الأشياء، التي لا تبلغ حدها الطبيعي، قد تنقلب إلى ضدها تماما كالأشياء، التي تزيد عن حدها! إنها كيمياء خاصة جدا، من الزيادة والنقصان، لا أحد يدرك معاييرها غير المعني، بها بصفة مباشرة وبشكل عميق . لذلك فإن الحديث عن الموضوعية والذاتية، يبقى أكثر الأحاديث رفاهية، وأريحية، ما لم ينشب حريق بينهما في واقعة محددة، تحتك بإحدى تجليات الإنسان كظاهرة ثقافية، لها ما يؤلف إيقاعها، ولها ما يربك، درجات حرارتها، وصقيعها.

كيف يمكن أن نكون موضوعيين في زمن الفوضى، والظلم، والمافيا المدولنة ؟ هل الموضوعية موقف، يخضع لاعتبارات سياسية إيديولوجية أم هي حالة عقلانية، تحتكم إلى الواقع والى البرهان ؟ الباحث الجزائري الدكتور محمد آركون المختص في تاريخ الفكر الإسلامي، بثت له الفضائية المغربية في الأيام الأخيرة حوارا تحدث عن علاقتنا بالآخر قبل أحداث 11 سبتمبر وبعدها. وفي هذا الحديث بدا محمد آركون كعادته، موغلا في الموضوعية، ومتمسكا بالنظر إلى العرب من منظور الآخر ومتحمسا أكثر من ذي قبل لتحميل العرب مسؤولية ما جرى، بل يرى أنه نحن من غذى المخيال الغربي وتصوراته بصورة سلبية عنا.وكأن المخيال الغربي قد اضطر مجبورا، لرسم صور بليغة القبح، رغم أن نوايا هذا المخيال، كانت تتمنى عكس ذلك! لقد بالغ الدكتور محمد آركون في دفاعه عن الغرب، وأطنب في إثقال كاهلنا، دون أن يترك الحقائق التاريخية، تنتصر لنا ولو في حدود النقاشات العابرة، في حين أن علم الرجل، يؤهله ليكون منصفا بعض الشيء لانتمائه الحضاري، الذي لا يمكن لإقامة مهما كانت طويلة في ديار الغرب، أن تمحيه وتحوله سرابا أو أن يذعن لأوربة المواقف، التي تتعارض والموضوعية العلمية، وتتناقض مع الحقائق، التي يعج بها التاريخ القديم والحديث والمعاصر .

ولكن مع ذلك سنفترض، أن ما ذهب إليه الدكتور آركون هو عين الصواب، وسنقبل بأن العرب هم الذين غذوا المخيال الغربي، بصورة سلبية عن الكائن العربي المسلم أي أن العربي، هو الرافض للآخر والحافر في مختلف المناطق، القابلة للانفجار، إلا أن القبول بمثل هذه الفرضية، يبقى أمرا لا يتجاوز حدود اللغو، لا سيما وأن المنطق، لا يجد الحد الأدنى من الأسس المطلوبة، إذ أن موقف محمد آركون، يستبطن تبرئة للغرب، من كل تآمر حضاري ضدنا، ومن كل انحراف قام به العقل الغربي، منذ بداية القرن العشرين.

بالإضافة إلى أن وجهة نظر آركون، تنظر إلى العالم الغربي، والعالم العربي، ككتلتين وحيدتين، متناسية وجود مؤثرات قوية، حول هذه العلاقة واقتحام قوى ضغط معروفة، لتحويل وجهة علاقة العالم المسيحي بالعالم الإسلامي، والإيقاع بها في عدة مطبات.

طبعـا عندمـا نجد محمد آركـون يـرفض، رغـم محـاولات مقدم البرنامج ليستعمل عبارة «الصهيونية»، ويلتزم كسياسي مهذب، بمصطلح الدولة الإسرائيلية، نستطيع أن نفهم مواقف الرجل أكثر، ولكن شرط أن لا تحسب هذه المواقف، في خانة المواقف الفكرية الصرفة المتحررة من أي ضغوطات سياسية عالمية ونحن إذ نلتقط هذه الجزئية بالذات، فليس من باب المزايدة، في مسألة حساسة جدا، بل لأن اليهود الصهاينة يمثلون أهم من لعب دورا رئيسيا، في تغذية تصورات المخيال الغربي، بصورة سلبية عن المجتمعات العربية الإسلامية، فجندوا الإعلام والثقافة الغربيين، لدس الدسائس، وقدموا للعالم حكاية صراعهم معنا، بالطريقة التي تروق لمشروع إبادتنا. ومسكوا العالم من جيبه، وتحكموا في إشارات مرور الدولار والأورو واستغلوا ما حققوه من ثقل اقتصادي شاسع، في مختلف عواصم الغرب، للظفر بكافة أشكال الفيتو، على مجازرهم .

لا أدري لماذا قفز محمد آركون، على هذه الحلقة الأساسية، ما دام اختار الحديث بوضوح عن المخيال الغربي، والأطراف التي ساهمت في تغذيته.

بل لا نعلم لماذا غاب عن شاشته اليهود كطرف، له هيئة الديناصور، وسلط كل نور البصر الذي يمتلك، للنظر في طرف لطالما، كان متسامحا مع الآخر في محطات تاريخية، وان كان تاريخ العلاقة بينهما طغى على ورده الشوك.

وعلاوة على دور اليهود، في صنع صورة يغلب عليها التشويش، والضبابية، والاستبطان العميق للعنف، فإن للغرب، وبالتحديد أوروبا، مساهمة أولى في جعل العلاقة تتردى، على النحو الذي آلت إليه في الحاضر وهي مساهمة تتضمن جملة من الأسباب، البعيدة والقريبة وحملت أبعادا سياسية، وثقافية، منذ فجر القرن المنصرم. وكل تلك الأسباب، فعلت فعلها، عبر التاريخ، وخلقت الأزمة الحضارية الواقعة اليوم، والتي تتحمل خلفياتها أوروبا، لكونها كانت الفاعلة في الأمس، قبل أن تصبح أمريكا، الفاعلة الأولى في التاريخ المعاصر.

إن جملة الانحرافات، التي قام بها الغرب، إزاء العالم العربي الإسلامي، تمثل اللبنة الأولى، لتوتر، يبدو للوهلة الأولى، جديدا وحديثا في حين أن جذوره ممتدة، في الماضي لذلك فإن تعمد مبدأ القطيعة التاريخية، في مقاربة هذا التوتر، لن يقودنا إلا إلى قراءات مشوهة، تلقي القبض على حامل منديل الجريمة، وتكتفي بالمنديل كدليل إدانة.

إن الغرب الذي يمعن محمد آركون في تلميع براءته، هو من بدأ الانحراف، في القرن العشرين ذلك أن برنامج التحرر، الذي وضعه الحلفاء، ونادوا فيه بحرية كل شعب في أن يحكم نفسه، وقطعوا فيه وعودا، مع العالم الإسلامي ما لبث هذا البرنامج أن حاد عن وعوده، وجرى عقد معاهدات سرية، نصت على اقتسام بلدان الشرق الأدنى. بالإضافة إلى أن مؤتمر السلام في باريس، رفض ساعتها الاستماع إلى مندوبي مصر وممثليها، ووضع تحت الوصاية ما تبقى من دول إسلامية مستقلة. وانحرف العقل الغربي، مرات أخرى كثيرة، أبرزها اتفاق «سايكس بيكو» الذي أولى انكلترا، الانتداب على فلسطين، فأعلن بلفور فلسطين وطنا قوميا لليهود.

وعربدت فرنسا، في انحرافاتها حتى عمدت إلى تحويل سكان المغرب العربي، إلى فرنسيين ولعل المرسوم الذي أصدرته سنة 1830 والذي جاء فيه «إن إيالة الجزائر لن تصبح حقيقة ممتلكة فرنسية إلا عندما تصبح لغتنا هنا قومية» لدليل قوي، على سعي الآخر لاغتيال لغتنا وهويتنا، اذ الاستعمار في باطنه، حملات تهدف الى طمس المستعمر والقضاء على تاريخه الثقافي.

هذا بالاضافة إلى محاولاتها لتلهيج اللغة العربية، والحرص الشديد، على تمسيح البربر، من ذلك قولة الكابتان لوغلاي الشهيرة «علموا كل شيء للبربر ما عدا العربية والإسلام».

إن هذه الأمثلة القليلة، والمقتطفة كيفما اتفق، الخاصة بتاريخ انحراف العقل الغربي إزاء العرب يجعل من الغرب البريء، الذي يقدمه محمد آركون، مثـقلا بالتهم المثبتة تاريخيا أي أنه في غنى عن أي محاولات تغذية، قد يقوم بها مظلوم، أو متطرف، أو صاحب حق، أخطأ السبيل.

* كاتبة وشاعرة تونسية Amelmoussa.yahoo.fr