عودة إلى الجنوب اللبناني

TT

تمخض الجبل... فولد فأرا اسماه «مناطق عازلة» بين اسرائيل والفلسطينيين. ولولا بعض الحياء القومي لكان اسماه «خط ماجينو» القرن الحادي والعشرين. يبدو ان الجنرال ارييل شارون ومجلس امنه المصغر ما زالوا يتخبطون في حالات «التجربة والخطأ». ولكن ان يتمخض الفكر الاستراتيجي الاسرائيلي عن «حل» للانتفاضة سبق للجيش الاسرائيلي ان جربه ـ بفشل ذريع ـ في جنوب لبنان... أمر يدعو الى التساؤل عما إذا كانت ذاكرة شارون تنافس رؤيته بقصر النظر أم ان جعبته العسكرية باتت خاوية الى حد دفعه الى تكرار تجارب الماضي القريب. عوض الخروج من الازمة يواصل شارون نهج تعميق الازمة. الا ان مغزى التفكير باقامة «منطقة عازلة» في الاراضي المحتلة يتجاوز الفكرة، بحد ذاتها، الى توقيتها، فهي تطرح في اعقاب نقلة شكلية في اسلوب مواجهة اسرائيل للانتفاضة الفلسطينية يمكن تلمس ابعادها من اعتراف الجنرال شارون نفسه، الخميس الماضي، بانه يخوض «حربا»... ولكنها، كما قال، حرب سيبذل قصارى جهده ـ بنصيحة اميركية على الارجح ـ لتجنب تحولها الى «حرب شاملة» في وقت تحتاج فيه الولايات المتحدة الى شكل من اشكال الهدوء في الشرق الاوسط لتمدّ حربها على «الارهاب» الى العراق. مع ذلك، يعتبر الارتداد الى مفهوم المنطقة العازلة اعترافا اسرائيليا بان آلتها العسكرية تواجه، بعد 17 شهرا من القمع الدموي لمن تصفهم بـ«الارهابيين»، نكسة تستدعي تغيير تكتيك مواجهتها لحركة مقاومة مرشحة للتحول الى حرب عصابات منظمة، واعترافا موازيا بان المقاومة الفلسطينية استوعبت لعبة المواجهة مع قواتها واصبحت ملمة بنقاط ضعفها. من هذا المنظور يمكن القول بان شارون كان يخوض حتى الآن حربا سياسية باساليب عسكرية. اما اليوم فقد بات لزاما عليه خوض حرب عسكرية باساليب عسكرية بحتة. ولكن إذا كان التصعيد المتوقع لوتيرة العمليات الميدانية سيكون العنوان الابرز لمرحلة المواجهة المقبلة بين الفلسطينيين والاسرائيليين، فان ما يستتبعه من ردود فعل فلسطينية سيتحول الى «الصدمة النفسية» المطلوبة لاقناع الرأي العام الاسرائيلي، بشكل قاطع، ان شارون يخوض حربا بلا رؤية ويواجه أزمة عمر اسرائيل بلا حل. والواقع ان شارون يعيش اليوم اياما مستعارة، فمشاعر الامال الخائبة في وعوده تزداد اتساعا في اوساط النخبة العسكرية والمدنية معا، والاصوات تتعالى داعية الى «فصل كامل» بين الفلسطينيين والاسرائيليين والى انسحاب عسكري آحادي الجانب من الاراضي الفلسطينية المحتلة، فيما تزداد حركة النزوح من البلاد، اضافة الى ان اصرار شارون على التعامل مع الانتفاضة عبر مقاربة امنية فقط فتح له جبهة أخطر في الداخل، فمعدل البطالة بلغ نسبة قياسية 19.7 في المائة لم تشهدها اسرائيل منذ قيامها عام 1948، والانتاج الصناعي انخفض، عام 2001، بنسبة 5.7 في المائة، وكذلك تراجع معدل النمو السنوي.

على ضوء هذه الخلفية يصح التساؤل: ألم يكن وضع الجاليات اليهودية في اوروبا والعالم العربي أيضا اكثر امانا من وضعها في «ملاذ» الوطن القومي، ومستقبلها واعدا اكثر مما هو الآن في اسرائيل؟

سؤال قد ينتظر جيلا صهيونيا جديدا للاجابة عنه بواقعية.