كصخرة خضت بركة التسوية المتجمدة!

TT

«الانسحاب الكامل من كل الاراضي المحتلة طبقا لقرارات الأمم المتحدة بما في ذلك القدس، في مقابل تطبيع كامل للعلاقات».

لم يكن هذا الكلام مجرد حجر تعَّمد ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود القاءه في بركة التسوية السلمية المتجمدة، بل كان في الواقع بمثابة صخرة كبيرة اراد اسقاطها فوق الوضع المأسوي المقفل على الدم والآلام في ظل أمرين: أولا فشل كل مشاريع التسوية السلمية وثانيا اندفاع آرييل شارون في مذبحة مفتوحة ضد الشعب الفلسطيني تجاوزت حدود الاحتمال وباتت تهدد بتفجير واسع على المستوى الاقليمي.

ليس هناك أي مبالغة في القول، ان المهتمين بشؤون الشرق الاوسط، وبمسائل التسوية للصراع العربي ـ الاسرائيلي، وبوقف حمام الدم في فلسطين المحتلة، باتوا منذ 17 شباط (فبراير) الجاري، يركزون اهتمامهم الأساسي لاستجلاء تلك التفاصيل البارعة والمثيرة والذكية، التي تنام في درج مكتب ولي العهد، وفي سياق خطاب معدّ للالقاء، وكان سيُلقى في القمة العربية التي ستعقد في بيروت نهاية آذار (مارس)، ولكن «اندفاع شارون في العنف والقمع الى مستويات غير مسبوقة» حال دون ذلك.

ومنذ الاعلان عن وجود هذا الخطاب الذي يمثل انعطافا حاسما في الواقع الاقليمي الراهن، انصب الاهتمام على المستويين العربي والدولي، على هذه المبادرة السعودية، التي وضعت اسرائيل والولايات المتحدة الاميركية تحت دائرة الضوء وامام خيارات بسيطة وواضحة.

إما ان تكون هناك رغبة في السلام وصيغة «الانسحاب الكامل مقابل التطبيع الكامل» تقدم حلاً شاملاً ونهائياً في هذا السياق، واما ان لا يكون هناك وجود لهذه الرغبة فيتحمل كل مسؤوليته.

وعلى امتداد ستة اسابيع الآن، أي منذ اليوم الى موعد انعقاد القمة العربية في بيروت نهاية آذار (مارس) المقبل، ستبقى المبادرة المذكورة محور نقاشات وتعليقات وتحليل، لكن التدقيق في محتواها سرعان ما يبرز ثلاثة عناصر مهمة اساسية ترتكز عليها وهي:

أولاً: آلية المبادرة التي تقوم على مبدأ الشمولية العربية معطوفة على استجابة صريحة لقرارات الشرعية الدولية.

ثانياً: توقيت الاعلان عنها، وقد جاء في وقت بدت كل الآفاق فيه مغلقة على أمرين: فشل الحلول والمبادرات، واستغلال حكومة شارون تداعيات هجمات 11 ايلول (سبتمبر) على اميركا للاندفاع أولاً في تشويه سمعة العرب والمسلمين وثانياً لتصعيد المذبحة المفتوحة وقمع الفلسطينيين.

ثالثاً: التوضيح ان هذه المبادرة حاضرة بالنص والمحتوى ولا ينقصها الا الاعلان، الذي يفترض ان تسبقه ظروف موضوعية ملائمة تؤكد وجود رغبة فعلية وعملية في السلام لدى اسرائيل والمهتمين بالتسوية وخصوصا الولايات المتحدة الاميركية.

وعلى خلفية هذه العناصر، فإن المبادرة تكتسب أهمية كبيرة وخصوصا إذا دققنا في ما تثيره من نقاشات وما تتركه من آثار سياسية ومعنوية على غير صعيد ومستوى، بعدما بدت في اسبوعها الاول وكأنها تضع الجميع تقريبا أمام مسؤولياتهم السياسية والاخلاقية، وتضيء مجموعة واسعة من الوقائع والحقائق التي من شأنها بالتالي ان تدحض كثيرا من الاضاليل وحملات التشويه والتعمية التي تشنها اسرائيل والدوائر الصهيونية ضد العرب والمسلمين وفي مقدمهم بالطبع المملكة العربية السعودية.

وان التدقيق في محتوى المبادرة يقود الى مجموعة من الاستخلاصات أهمها:

ـ انها تفتح ثغرة في جدار الوضع المقفل على التصعيد والدم منذ 17 شهرا، لا بل منذ راحت اسرائيل تنكل بالتسوية السلمية عبر تنكرها لابسط التزاماتها في موضوع الانسحابات والحقوق على المسار الفلسطيني، وفي موضوع تنفيذ قرارات الشرعية الدولية وخصوصا القرار 242 الذي يدعو الى الانسحاب من الاراضي العربية المحتلة.

ـ ان فتح ثغرة من هذا النوع وبهذا الزخم يبدو مهما جدا الآن، حيث لم تعد التسوية على المسار الفلسطيني في مهب الانهيار والسقوط فحسب، بل ان التسويات الناجزة على المسارين المصري والاردني باتت تواجه تآكلاً واضحاً في الجدوى والصدقية، وهذا يعني ان كل عملية السلام صارت في مأزق، وجاءت المبادرة المذكورة كمحاولة لانتشال الوضع من حافة الانهيار الشامل.

ـ ان المبادرة في شموليتها العربية وفي انطلاقها منذ قرارات الشرعية الدولية، جاءت لتتجاوز التناقضات الموضوعية والبنود المرحلية لكل المساعي المعطلة على يد الاسرائيليين من «تقرير ميتشيل» الذي يعيد الوضع الى نقطة الصفر في «كامب ديفيد2» الى «ورقة تينيت» لوقف النار وحسب، مرورا بالمبادرة الفرنسية ـ الأوروبية الأخيرة وحتى باتفاق اوسلو عينه، ذلك انه عندما تطرح هذه المبادرة صفقة شاملة وكاملة للحل عبر «التطبيع الكامل مقابل الانسحاب الكامل» فإنها تفتح صفحة جديدة لمساعي الحل على مستوى اقليمي شامل يتجاوز كل العراقيل التي برزت منذ مؤتمر مدريد.

ـ إن المبادرة ستشكل بالتالي اختبارا موضوعيا وعمليا لمدى رغبة الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل في قبول سلام عادل وشامل يقوم على المبادئ المتفق عليها، وفي مقدمها الارض مقابل السلام، الذي شكل منطلقا لمؤتمر مدريد على خلفية تطبيق قرارات الشرعية الدولية المتمثلة في القرارين 242 و 338.

ـ انها تظهر العالم العربي صاحب مبادرة شاملة وعادلة تنطلق من قرارات الشرعية الدولية، وخصوصا الآن، بعد تداعيات 11 ايلول (سبتمبر) التي استغلتها اسرائيل والدوائر الصهيونية الى مدى بعيد، عندما صورت ان العرب يقفون الى يمين «الارهاب» من خلال دعمهم الانتفاضة الفلسطينية.

ـ انها تحاول اعادة الرئيس جورج بوش الى سياق الرؤية الاميركية، التي سبق ان شرحها كولن باول في كنتاكي عندما تحدث عن ضرورة قيام دولة فلسطينية كمدخل وحيد للتسوية والسلام في الشرق الاوسط. وعندما يكون المطروح صفقة شاملة للحل، فإن كل المزاعم والمناورات ومحاولات التملص ستسقط عند الاسرائيليين، وخصوصا ان المعروض هو ترجمة عملية بسيطة لمبدأ الارض مقابل السلام الذي كلف الديبلوماسية الاميركية جهودا مضنية ايام جورج بوش الأب.

ـ انها من خلال آلية عملها المقترحة تحرم الاسرائيليين عنصرا اساسيا من عناصر المناورات السياسية والسيكولوجية، التي هدفت دائما الى اثارة الحساسيات العربية ـ العربية، من خلال التلاعب بموضوع العلاقة بين مسارات التفاوض! ـ انها تكفل خلق مسافة بين واشنطن وتل ابيب، على خلفية ان الدول العربية تعرض صفقة شاملة وعادلة للتسوية، فاما ان تستجيب اسرائيل عبر الانسحابات الكاملة، انفاذا لقرارات الشرعية الدولية وتحصل على علاقات طبيعية كاملة مع العرب، واما ان تتحمل مسؤولية تخريب السلام وانفجار المنطقة.

ـ ان المبادرة تعطي دول الاتحاد الاوروبي دلالة وحجة في مواجهة الانحياز الاميركي الى اسرائيل، حيث سيكون في وسع الاوروبيين ان يقولوا: هذا عرض متوازن عادل وشامل، فأين تقف منه اسرائيل ولماذا لا تدعمه اميركا حتى النهاية مثلا؟

ـ ومن شأن المبادرة السعودية ان تعطي القمة العربية في بيروت أفقا جديدا يتجاوز الاحراجات المتوقعة في ظل المعادلة: اما ان تكون مع عرفات أو مع الانتفاضة.

ـ ومن المؤكد ان المبادرة، ومن خلال السعي الى خلق جو سلمي في المنطقة، تساهم في رفع اخطار التهديد بضرب العراق، فوسط هذا الجو التصالحي الذي تشيعه سيكون كل عمل عسكري محرجا جدا.