الرئيس الجزائري يراهن على الانتخابات المقبلة

TT

استقبل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الاربعاء الماضي، قيادات أهم أحزاب الائتلاف الحكومي، وأحزاباً أخرى من بينها منسحبون من الائتلاف أو غير مشاركين فيه أساساً، وكان الاستثناء الرئيسي هو جبهة القوى الاشتراكية التي رفضت دعوة الرئيس، واتصور سبب ذلك هو عدم توصلها بعد، الى تبني معادلة منطقية بين المطلوب والممكن.

وتؤكد الاستقبالات، بغض النظر عن ان هناك من رأى فيها فرصة للعودة الى ساحة سياسية خرج منها قصورا وعجزا، أن الواضح هو ان عبد العزيز بوتفليقة يراهن على الانتخابات المقبلة. وهكذا تشهد الجزائر، في الاسابيع المقبلة فتح صفحة جديدة تضع حدا نهائيا للمحنة التي عرفتها في السنوات الماضية، وذلك باجراء الانتخابات التشريعية، الثانية بعد انتخابات ديسمبر 1991، والتي كان اجهاضها بداية لمسلسل العنف والعنف المضاد في البلاد، وبروز ممارسات بالغة البشاعة، بدا وكأن من اهدافها منافسة المذابح الاستعمارية والاسرائيلية.

وليس سرا ان معظم الجزائريين ينظرون الى الانتخابات بعيون ملؤها التساؤلات، وبنفوس فيها الكثير من الشكوك، وبحجم كبير من الريبة والتوجس والاحباط، وبحجم أكبر من التناقض في النظرة، بحكم تشابك المعطيات وتعقيدها.

فلقد احاطت بالانتخابات التشريعية في 1997 شكوك كثيرة، غير ان انتخاب اليمين زروال رئيسا للجمهورية في نوفمبر 1995 كان تعبيرا حقيقيا عن ارادة شعبية في الخروج من اتون الوضعية الأمنية الملتهبة، بحيث يمكن القول ان الحديث عن تزوير للارادة الشعبية، بشكل مباشر، في انتخابات نوفمبر 1995 الرئاسية، هو هراء لا أساس له من الصحة، بغض النظر عن بعض التجاوزات أو الاساليب والطرق التي استعملت لاختيار بعض المرشحين الآخرين، والتي جعلت البعض يتحدثون، للمرة الأولى في تاريخ البلاد، عن أرانب سباق، مهمتها تبرير الفوز للمرشح الأول في الانتخابات التعددية.

لكن عنصرا جديدا برز على الساحة السياسية وهو تحول العديد من التشكيلات المؤيدة للرئيس الى حزب سياسي، حمل اسم التجمع الوطني الديمقراطي، يخوض الانتخابات التشريعية في 1997 ليحظى بالاغلبية، مما اعطى كثيرين الفرصة للحديث عن مولود ولد بشواربه ولحيته.

وكان التعديل الدستوري، الذي جرى الاستفتاء حوله في 1996، أول مناسبة تظهر فيها شرائح كثيرة عدم رضاها عما تعيشه، فقد تجاهل التعديل الميكانيزمات التي وضعها دستور 1989، وبدا ان الهدف الرئيس كان اقحام قضية الامازيغية واقامة غرفة ثانية، مهمتها الأولى هي التحكم في نشاطات الغرفة الأولى، اذا حدث أن امسكت بزمام الأغلبية فيها تيارات تتناقض مع السلطة.

وللمرة الأولى يرتفع عدد المصوتين، سلبا، الى نحو مليونين (أي عُشر المصوتين بنعم تقريبا) مع نحو أربعة ملايين ممتنع عن التصويت، رغم كل الجهود التي بذلت لتحقيق نتائج أحسن، وكان من بينها تسريب الاشاعات بأن البطاقة الانتخابية ستكون مطلوبة من المواطن في البلديات والهيئات التي يقصدها لقضاء مصالحه.

وتعالت اصوات التنديد بالتزوير، وحملت قيادة جبهة التحرير الوطني آنذاك (والتي انتزعت المسؤولية من عبد الحميد مهري بفضل تواطؤ بعض مراكز القوى) سيف محاربة التزوير، ولكن السيف كان خشبيا هدفه، في نهاية الأمر، الحصول على بعض المكاسب هنا أو هناك. وينطبق الأمر على تشكيلات حزبية أخرى.

وبعد انتزاعه للأغلبية في المجلس الشعبي الوطني ينتزع التجمع الوطني الديمقراطي الاغلبية في مجلس الأمة، ويبدو ان السلطة استعادت، كما تصورت، الشرعية البرلمانية التي فقدت في يناير 1992. ويتزايد الاحباط الشعبي في كل ما يتعلق بالانتخابات.

ويفجر اليمين زروال في سبتمبر 1998 قنبلته، غير المتوقعة، حيث يعلن عن اختصار عهدته الرئاسية.

وتجرى الانتخابات الرئاسية في ابريل 1999، وينسحب ستة مرشحين عشية اجراء الانتخابات، تاركين المرشح السابع ليخوضها وحده، وكانت التهمة الرئيسة هي التزوير. وللمرة الأولى لا تقتنع الأغلبية بقضية التزوير.

ويتضح ان هدف الانسحاب الحقيقي هو افساد العرس الانتخابي، وهو ما بدا للوهلة الأولى نتيجة لتحليل خاطئ للاحداث قام به أو دفع اليه المرشحون الستة، ولكن تأكد بعد ذلك ان هدفه الحقيقي، أو على الأقل هذا ما خطط له البعض ووقع البعض الآخر في شراكه، هو اصابة شرعية بوتفليقة بشرخ يتزايد مع الأيام، هدفه شل قدرات الرئيس المقبل لكي يظل دائما أسير وضعية معينة لا فكاك منها.

وهنا نعود الى تساؤل أغاثا كريستي عن المستفيد من الجريمة لنفهم الكثير، بغض النظر عن ان هناك من لم يكتشفوا الفخ الذي وقعوا فيه إلا بعد ان سبق السيف العذل.

ولجأ الرئيس الى الاستفتاء حول قانون الوئام المدني ليستكمل شرعية نوفمبر 1999 بشرعية سبتمبر 2000.

ولكن ليس ثمة دليل على ان هناك تكاملا حقيقيا بين الوظيفة التنفيذية والوظيفة التشريعية، بحيث لم يقم رئيس الجمهورية مرة واحدة بزيارة للبرلمان بغرفتيه، ولم تجتمع الغرفتان إلا مرة واحدة، عند تنصيب رئيس الجمهورية، ولمجرد انه ليس هناك نص يقنن اللقاء المشترك، مما يؤكد قصور دستور 1996 (وإن كان هذا في حد ذاته ليس كافيا لخلق حماس معتبر لتعديل الدستور، على الاقل قبل انتخابات تشريعية نزيهة وشفافة).

وأدى عدم تمكن الرئيس أو عدم رغبته في التعامل مع البرلمان خارج الاطار التشريعي الكلاسيكي الى فقدان الرئيس لفضاء سياسي كان يمكن ان يوفر له مجالا للحركة والتفافا حول القيادات الحزبية، خاصة تلك التي لا تحظى بجماهيرية حقيقية.

باختصار لقد سئم الجزائريون الانتخابات وألاعيبها ونتائجها غير المؤكدة، حتى وإن لم يصل كثيرون اليوم الى قرار نهائي بالتحمس لها أو بتجاهلها.

وربما كان من أهم العناصر التي تشجع الجزائريين اليوم على الترحيب بالانتخابات هو ان هناك تيارات أعلنت عن رفضها المشاركة فيها، ما لم يتم اقصاء الوطنيين والاسلاميين، أي ان تمنع الاغلبية الجماهيرية من ممارسة حقها المشروع الذي يكفله الدستور. والغريب ان هذه التيارات هي التي ترفع شعارات الديمقراطية، والتي رفعت يوما شعار «المجتمع المفيد»، وموجزه ان اغلبية المواطنين تعيش في وضعية فكرية واجتماعية لا تسمح لها بالتعبير الحر عن رأيها، وهي، ان اعطيت الفرصة، ستسيء الاختيار، كما حدث في 1991! هنا، وبدون محاولة للمضاربة، يمكن ان ندرك معنى عودة الاعمال الاجرامية الى بعض المناطق الجزائرية، ونفهم لماذا يعمل البعض على اقناع المؤسسة العسكرية بالعودة الى وضعية بداية التسعينات، لتتمكن الأقلية من التحكم في رقاب الاغلبية.

لكن الاحداث التي عرفتها منطقة القبائل وتأثرت بها مناطق متعددة في أرض الوطن، أكدت اليقين بضرورة وجود سلطة مركزية قوية، تتمتع بالشرعية الكاملة، لكي تتخذ القرار الصائب في ما يتعلق بالمطالب التي يرى الكثيرون في بعضها نوعا من التعجيز، وفي البعض الآخر محاولة لتدمير هيبة الدولة الجزائرية.

وبالاضافة الى ان مشاريع الانعاش الاقتصادي تأثرت بتلك الاحداث كما تأثرت بالنتائج التي ترتبت على فيضانات نوفمبر الماضي، نجد ان وضعية احباط عام تسود الشارع الجزائري، وهو أمر بالغ الخطورة، يلغي امكانيات الخروج السريع من المستنقع الذي عانت منه البلاد في العشرية الماضية، بالاضافة الى انه يعطي الفرصة لبعض التيارات لمواصلة عملية الابتزاز السياسي التي عرفتها البلاد منذ ايقاف المسار الانتخابي.

لكن ذلك كله، بكل تناقضاته، لا يمنع من القول بأن هناك يقينا عاما بأن انتخابات تشريعية نزيهة تتم في وقتها المحدد، وتفتح الباب أمام كل التيارات السياسية أيا كانت اتجاهاتها، وتجري تحت رقابة وطنية ودولية وفي ظل شفافية مطلقة، هي وحدها القادرة على خلق المناخ الديمقراطي الصحي الذي يمكن السلطة التنفيذية من طرح مشاريع الاصلاح الاداري والتعليمي في اطارها الصحيح، كقوانين تناقش شعبيا ثم برلمانيا لتكون في نهاية الامر قوانين ملزمة للجميع.

وهنا تتأكد الخلفيات المشبوهة للذين يضغطون على الرئيس لدفعه الى تعديل الدستور بدون المرور على الاستفتاء الشعبي.

والمؤكد ان الرئيس يدرك بأن تجاهل الارادة الشعبية في قضايا بمثل القضايا المطروحة هو قنبلة موقوتة يمكن ان تنسف كل شيء، بالاضافة الى انها تحرمه من هامش المناورة التي يوفرها المناخ الديمقراطي، وتفقده حلفاء طبيعيين في الوقت الذي تجعله رهينة لخصوم تقليديين.

ويبقى ان جبهة التحرير، بوسطيتها وبعمقها التاريخي وبرصيدها الشعبي الذي استعادت الكثير منه، قادرة على ان تلعب دورا رئيسيا في تطبيع الوضعية الجزائرية، اذا استطاعت ان تضع المعادلة المطلوبة لتحركاتها المستقبلية واحسنت الاستفادة من الطاقة البشرية التي تنتسب لها.

المؤكد اذن ان الانتخابات الحرة هي دواء الازمة الجزائرية، ولكن السؤال: هل تنجح الارادة الوطنية في تحجيم المستفيدين من الوضعية الحالية؟

والمؤكد ايضا انه لا مجال اليوم لخداع الجماهير، التي ادركت بأن هناك، على الساحة السياسية، من لا يريد غيره على الساحة السياسية، خصوصا اذا كان هذا الغير يجسد قاعدة شعبية عميقة الجذور واسعة الانتشار. وهذا يرسم خريطة التحركات المستقبلية.