وسائل حديثة ولغة قديمة

TT

الذين تقرأ لهم، تسمع رأيهم، تشاهدهم في الندوات والمحطات الاذاعية والتلفزيونية ومواقع الانترنت لهم حصة كبيرة في صناعة الرأي العام العربي، وهي مهنة قديمة لكنها لم تبلغ مرحلة ما بلغته اليوم من نفوذ وتأثير. في السابق كانت موجودة لكنها غير فاعلة، لانه لم تكن هناك وسائل اعلامية متعددة ومنتشرة وما وجد في السابق لم يكن يردد سوى رأي الحكومة عبر مذيعيها.

وقد تطورت الوسائل مثل القنوات الفضائية والصحف واستحداث المواقع الا ان الساحة ظلت محدودة للرأي على الرغم من مئات الساعات المخصصة للنقاش. السبب من شقين: فئة مهيمنة من القائمين على الحوار تمثل تلاميذ اعلام وفكر الماضي لا يسمحون الا بحوار مؤطر يجب الا يتجاوز ما تعلموه من المعاني الوطنية والاجتماعية وقواعد الاستنتاج. الفئة الثانية التي تعلمت دائما ان تعبر بحذر شديد الى درجة تلغي ما تريد قوله. وسط ورثة الفكر القديم وحملة الفكر الحديث الحذرين جدا يمكن ان نقول ان الوسائل الحديثة غيرت القليل، اي انه كتاب قديم او صحيفة قديمة على هيئة محطة تلفزيون رقمية حديثة او موقع الكتروني لامع! اي انها افكار خمسينية وستينية ومن مخلفات الحرب الباردة تهيمن على الساحة وتفرض على نفسها وعلى غيرها رقابة ذاتية. وهنا لا نلوم الحكومات فالرقباء هم المثقفون انفسهم بخلاف ما كان يحدث في الماضي.

الزميل الاستاذ مأمون فندي قدم في مقال سابق له دراسة مهمة عبارة عن دليل القارئ لفهم لغة الكاتب العربي ومعانيها، وهي مراجعة ذكية منه تكشف كيف يفكر الكاتب العربي والمثقف عموما عندما يحاول ان يعبر عن افكاره ويحاور الآخرين. مقدمة فضفاضة وخاتمة حذرة وعبارات طويلة يحاول الكاتب ان يعبر بها عن نفسه وتحميه حتى لا يقال انه خرج عن الاطار العام او تمرد على قيم ثقافية سائدة. هذا الخوف المستمر يصبح فكرا بحد ذاته حتى يجعلنا بعد هذا كله نتساءل: ما فائدة امتلاك وسائل اعلامية تستطيع تحرير المثقفين والاعلاميين كثيرا من رقابة الرقباء، عبر الانترنت او الاقمار الصناعية اذا كان اللسان والعقل مربوطين بالاصفاد القديمة؟

لا شك عندي ان المتحدثين اليوم سيسخرون من انفسهم مستقبلا عندما يلمسون ان عالم الكلام والحوار قد تجاوزهم وتغيرت معه لغة الكلام ومفاهيم النقاش. وهذا التحول نلمسه اليوم بشكل محدود لكنه موجود وسيستمر في مسيرته حتى يحل المفكرون الجدد محل قدماء المتحدثين ويتخلص المترددون من خوفهم الدائم في التعبير عن انفسهم. وهذا لا يعني ابدا ان الافكار التي نسميها قديمة ستتغير لكن سيكون لاصحاب الطرح الجديد مكانتهم وسيكون للجميع فرصة الحديث وللجمهور فرصة الاستماع الكافي.