ملتقى الحضارتين

TT

يقولون ان الفن مرآة الواقع ولكنني وجدت ما ينقض واقع هذا الكلام. ففي هذه المرحلة التي طرحت فيها افكار صراع الحضارات وتوالي النقد والشتم على العرب والعروبة والاسلام، ساد واقع مختلف تماما في دنيا الفنون، وعلى الاخص دنيا الموسيقى. ذهبت قبل اسبوعين لمشاهدة فرقة فنطازيا وهي تقدم انتاجها في بهو الفستفال هول، انها فرقة دمجت بين الفولكلور الموسيقي والغنائي الجزائري وموسيقى البوب الغربية. بلغ اعجاب الجمهور الانكليزي بها ان انطلقوا في ساحة البهو يرقصون على انغامها الايقاعية ويشاركون الراقصة الجزائرية حركاتها المثيرة.

استيحاء الغربيين من التراث الموسيقي العربي اصبح شيئا شائعا. هناك كثير من الفرق التي تبنت هذا الدمج الحضاري الآن. الواقع ان ليس في ذلك من جديد فالموسيقى الغربية مدينة للعرب في كثير من تطوراتها واستوحى بعض موسيقييهم الكلاسيكيين شيئا من تراثنا في هذا الصدد.

بيد ان من انجح المبادرات الفنية في هذا الخصوص كان تأسيس فرقة راديو طريفة. والاسم خير دليل على المسمى. فطريفة هي اقرب نقطة من القارة الاوربية تواجه المغرب العربي من اسبانيا، واسمها ايضا يدل عليها فهي ارض ممتدة في البحر نحو العالم العربي كذراع مدت لمصافحة دنيا العرب.

تأسست هذه الفرقة عام 1993 على يد اساتذة وخبراء في الحضارة العربية وموسيقاها، كان على رأسهم فاين دوينس، الباحث المختص في موسيقى العرب والقرون الوسطى، وفنسنت مولينو الخبير في آلة الناي العربية، وبنجامين اسكوريزا، احد مغني الاغاني الاندلسية من اهل غرناطة. وفيما بينهم اسسوا هذه المحطة الاذاعية المستقلة، راديو طريفة، المتخصصة في هذا الضرب من المدرسة الموسيقية الاندماجية. انضم اليهم في ما بعد امير حداد كعازف للعود والقيثار، وكويرنسة ديمارس كراقصة متخصصة في الرقص الشرقي اضفت على هذا الرقص مسحة من الفن والرشاقة قل ما شهدنا مثلها في الكباريهات العربية.

لم يكن هؤلاء القوم مجرد عازفين يجرون وراء الكسب او الشهرة او المتعة، وانما كانوا اساتذة باحثين كرسوا حياتهم لدراسة الموسيقى العربية، والافريقية وموسيقى القرون الوسطى. يعطينا هذا النجاح العجيب الذي حققوه على المستويين الشعبي والاختصاصي، درسا في كيفية وامكانية تحويل البحوث العلمية الجافة الى متعة في متناول المواطن البسيط من كل الاقوام والطوائف.

ذهبت لمشاهدة الفرقة والاستماع اليها في الاسبوع الماضي في قاعة الفستفال هول المهيبة في لندن. وبالطبع لم اجد عربيا واحدا في القاعة. كانوا في بيوتهم يطبخون الرز والبامية مع الثوم، او يستمعون لحسين شعبان يتكلم عن حقوق الانسان، في حين امتلأت القاعة بشتى القوميات. كنت بينهم اشبه بالمتنبي في شعب بوان. لم يكن هناك مقعد شاغر واحد في قاعة تتسع لنحو ثلاثة آلاف مشاهد. وقلما استطاع شاب او شابة منهم الاستماع دون ان يرقصوا في مقاعدهم وهم يستمعون الى ايقاعات الفرقة على الطبول العربية، وانغامها الفريدة.

ذكرتني التجربة بما آمنت به مرارا، هو ان الفنون تعطي خير بوتقة لصهر الشعوب وتحاور حضاراتها بدلا من تصادمها، ومن وراء ذلك الحوار الفني، لعلنا نستطيع ايقاد بارقة السلام والتفاهم والمحبة.