تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم

TT

تناقلت آخر الأخبار ان ولي العهد السعودي، الأمير عبد الله بن عبد العزيز، كان ينوي اطلاق مبادرة جديدة لحل النزاع العربي ـ الإسرائيلي حلاً كاملاً ونهائياً، ولكن العنف المفرط الذي يمارسه آريل شارون تجاه الشعب الفلسطيني قد أوقف هذه المبادرة الى حين. ففي حديث على مائدة غداء الأمير حضره الصحفي الاميركي توماس فريدمان، ذكر الأخير ان الأمير أخبره ان مسودة هذه المبادرة لا تزال قابعة في درج مكتبه، وأنه كان ينوي اطلاقها والدعوة إليها في خطبة عامة قبل موعد القمة العربية القادمة في بيروت، في يومي 27 و28 من شهر آذار / مارس القادم، كأساس لمبادرة عربية متفق عليها من الجميع، تُنهي الصراع المزمن بين العرب والاسرائيليين الى الأبد، وتُعيد الاستقرار الى منطقة عانت كثيرا وآن لها ان تستريح، وتقضي على مبررات عنف مدمر لدى كافة الاطراف، وعلى كافة الاطراف. تتلخص هذه المبادرة بتطبيع عربي شامل مع الدولة الاسرائيلية، في مقابل ان تنسحب اسرائيل الى حدود الرابع من يونيو / حزيران لعام 1967، وفقا لقرارات الشرعية الدولية، وأهمها القرار رقم 242، الصادر عن الأمم المتحدة. ليس مجرد اعتراف بالدولة الإسرائيلية، ولكنه تطبيع كامل وعلى كافة المستويات، بحيث تتحول اسرائيل من دولة «عدوة» الى دولة «عادية» في المنطقة.

ومن المعلوم ان اسرائيل حريصة على اقامة علاقات مع دول الخليج، ومع المملكة العربية السعودية خاصة، حيث ان الاعتراف السعودي باسرائيل أكثر أهمية من أي اعتراف عربي أو اسلامي آخر. فالسعودية، بشرعيتها الدينية، وقوتها الاقتصادية، ومحوريتها السياسية في عالم العرب والمسلمين، تشكل ثقلا لا يشكله أي كيان عربي أو مسلم آخر. واسرائيل تعرف ذلك، وتعي أهمية ذلك، ولذلك نجدها في كل وقت وحين تبحث عن أية أوراق سياسية يمكن اللعب بها، بحيث تضغط على السعودية من أجل تقديم بعض التنازلات المتصلة بالعلاقة معها. وما الحملة الاعلامية الاميركية الاخيرة على السعودية، إلا جزء من ورقة سياسية أحسنت اسرائيل واللوبي الاسرائيلي في اميركا استعمالها في الظروف الدولية المعيشة، من أجل اضعاف العلاقة الاميركية السعودية من ناحية، والضغط على السعودية لتقديم تنازلات في مسألة العلاقات مع اسرائيل من ناحية أخرى. لكن السعودية كانت دائماً ملتزمة بالسقف الأعلى من المطالب العربية المشروعة، حتى عندما قدم الفلسطينيون أنفسهم الكثير من التنازلات تجاه اسرائيل، وصلت أخيرا الى نوع من التنازل، أو بداية لهذا التنازل، عن حق العودة للفلسطينيين في الشتات، وغير ذلك مما يمكن قراءته في تصريحات السيد ياسر عرفات الأخيرة. وها هي مبادرة الأمير تمنح اسرائيل الفرصة كاملة لرفع علمها في الرياض نفسها، ولكن لكل شيء ثمن. فكما ان لدى اسرائيل أهدافا تسعى لتحقيقها، وهذا من حقها، فإن للعرب والسعودية أهدافا يسعون لتحقيقها، وهذا من حقهم، والسياسة هي فن الوصول الى تلك النقطة التي عندها يتحقق أكبر قدر ممكن من اهداف كل الاطراف. فعمليا، لا يمكن ان تتحقق أهداف الجميع كاملة، وبالتالي فإن التنازل من هذا الطرف وذاك الطرف مسألة ضرورية للوصول الى نوع من الاتفاق المُرضي نسبيا لكل الاطراف، وإلا فإنه صراع مدمر لا ينتهي حتى ينتهي فيه أحد الأطراف، أو كل الأطراف.

والحقيقة انه بمجرد ان تدعو السعودية الى التطبيع مع اسرائيل، حتى لو كان الثمن هو انسحاب اسرائيلي شامل وكامل من الضفة والقطاع والقدس الشرقية، فيه من التنازل الشيء الكثير بالنسبة لموقف السعودية المتشدد دائما في ما يتصل بالعلاقة مع اسرائيل. هذا التنازل الذي قد لا يكون تنازلا على الاطلاق عند آخرين، له ما يبرره في ذهن الأمير عبد الله، أو ما اعتقد انه يدور في ذهن الامير على الاقل في هذا المجال. فالوحشية الاسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، مضافا اليها اللامبالاة الاميركية تجاه ما يجري في الارض المحتلة، بل والدعم الاميركي العملي لما يجري، مضافا الى ذلك عجز عربي كامل جعل وزير خارجية قطر مثلا يصرح بأنه لم يعد أمام العرب إلا «التوسل» لحل القضية، دفع الأمير الى محاولة انقاذ ما يمكن انقاذه، حتى لو كان ذلك على حساب أمور ما كانت واردة على الذهن في يوم من الايام. ففي مثل هذه الاوضاع، لا بد ان يكون هنالك ما يمكن فعله مما يتجاوز ما يمليه موقف «اضعف الايمان»، أو لعن الظلام، وهو الشجب والاستنكار هنا، من أجل وقف نزيف الدماء البريئة في فلسطين، وانقاذ حياة شباب اصبح يبحث عن الموت بحث غيره عن الحياة، بعد ان يئس من هذه الحياة.

لا يمكن ان يكون «التوسل» هو الطريق الى الحل، ولا يمكن ان يكون التوسل مفتاحا لحل، أو دواء لداء، لكنه في طرح مبادرة عملية ملموسة تعطي كل ذي حق حقه قدر الامكان، وعلى الباغي تدور الدوائر. مبادرة الامير عبد الله هي اقتراح للحل، فيه من التنازلات الشيء الكثير بالنسبة لدولة مثل السعودية، لكن وقف شلال الدم في فلسطين يستحق أكثر من ذلك. فإذا كان الرسول العربي الأمين، صلى الله عليه وسلم، قد قال: «لأن تهدم الكعبة حجرا حجرا، خير عند الله من ان يهدر دم مسلم»، فإن الحال اليوم في فلسطين لا يقل عن ذلك أهمية. فأن تتنازل السعودية عن بعض منطلقاتها المبدئية، خير من ضياع جيل فلسطيني بأكمله، وخير من نزيف دماء أهل لنا في الضفة والقطاع، ودائما وأبدا فإن اشعال شمعة خير ألف مرة من لعن الظلام. بل ان اشعال شمعة متاحة، خير ألف مرة من انتظار مصباح قد لا يجيء، وقد يكون مجرد حلم ليلة صيف لا يلبث ان يتبخر مع أول شعاع للشمس.

وعلى أية حال، فإن مبادرة الأمير عبد الله تقوم حقيقة على ذات الاستراتيجية العربية في هذا المجال، ألا وهي استراتيجية الأرض مقابل السلام، والتي دمرها شارون تماما في محاولته لنسف أسس العملية السلمية في المنطقة، من خلال اعادة الاحتلال، والاجهاز على السلطة الفلسطينية الضعيفة. لكن ما تتميز به مبادرة الامير هي الوضوح والصراحة والايجاز، وفق مبدأ ان الخط المستقيم هو أقصر الطرق بين نقطتين. الأرض مقابل السلام استراتيجية عامة، قد تكون خاضعة لتفسيرات متضاربة، أو تأويلات متعارضة، وفهم مختلف، بينما ما يقوله الأمير غير خاضع إلا لمعنى واحد لا لبس فيه: عودوا الى حدود الرابع من يونيو/حزيران، ولكم الأمن والسلام الكاملان. والآن، وبعد ان خرجت مبادرة الامير الى العلن، والتي ربما تحولت الى مبادرة عربية شاملة في قمة بيروت، فإن الكرة اصبحت الآن في الملعب الاسرائيلي، بل وفي الملعب الاميركي تحديدا، من حيث ان الولايات المتحدة هي الطرف الوحيد القادر على ضبط السلوك الاسرائيلي الذي لم يعد يحكمه ضابط.

فاميركا اليوم ترفع راية مكافحة الارهاب، وجزء كبير مما تعتبره ارهابا في منطقة الشرق الاوسط وخارجها، حتى لو لم نعتبره نحن ارهابا، راجع في اسبابه، سواء عن حق أو عن باطل، الى القضية الفلسطينية وتراكماتها عبر السنين. فلقد مر على الناس حين من الدهر كان العرب فيه هم المتعنتين في تعاملهم مع القضية وكيف يمكن لها ان تُحل، وضيعوا في تعنتهم ذاك فرصا تاريخية كان من الممكن ان تكون فيه الحال غير الحال. ولكن انقلاب الاحوال جعل الاسرائيليين اليوم هم المتعنتين، فيما العرب في جملتهم من اصحاب الدعوة الى تحكيم العقل في منطقة لا يعيد الاستقرار اليها سوى العقل، فهل كُتب علينا ان نضيع بين تعنت هذا وتعنت ذاك؟ لقد آن أوان الاحتكام الى العقل، وحل القضية الفلسطينية حلا عادلا يرضي كافة الاطراف، وإن كان رضا نسبيا، هو العقل بعينه، وهو الضمانة الاساسية لعودة الاستقرار الى المنطقة، وقطع الطريق على تيارات وجماعات تتخذ من القضية مبررا لممارسة عنف لا يُبقي ولا يذر. ولا اعتقد ان هنالك حلا أعدل بالنسبة للجميع افضل مما تتضمنه مبادرة ولي العهد السعودي. فالعدالة في النهاية هي اكبر قدر من التوازن والاتزان، وهي اعطاء كل ذي حق حقه قدر الامكان، إذ لا عدالة مطلقة في هذه الدنيا، وهذا في تقديري هو لب مبادرة الامير.

فمبادرة الامير تمنح الاسرائيليين ما بحثوا عنه طويلا، ألا وهو الأمن وشرعية الوجود في منطقة كانت ترفضهم دائماً، لكنها اليوم تقبلهم، ولكنها لا تقبل فاشية شارون، ودموية متعصبي العهد القديم، واصحاب الاوهام من القائلين باسرائيل الكبرى. ففي حديث الامير لفريدمان، يقول الامير: «كنت ابحث عن وسيلة أقول بها للشعب الاسرائيلي ان العرب لا يرفضونهم ولا يحتقرونهم. ولكن الشعوب العربية ترفض ما تفعله قيادتهم الآن بالشعب الفلسطيني من أعمال قمعية وغير انسانية. وفكرت ان مثل هذه الاشارة يمكن توصيلها الى الشعب الاسرائيلي». ومبادرة الامير تمنح الفلسطينيين ما بحثوا عنه طويلا ايضا، وبأكثر مما تسعى اليه القيادة الفلسطينية ذاتها اليوم، ألا وهو الاستقرار في دولة مستقلة على كامل الضفة والقطاع، بعد شتات السنين الطويلة. فكل ما يقوم به شارون اليوم من عنف مفرط مبرره البحث عن أمن اسرائيل في منطقة يقول انها ترفض اسرائيل، ومبادرة الامير تمنحهم هذه الغاية، فهل يبقى بعد ذلك من مبرر لاستمرار العنف؟ والفلسطينيون يبحثون عن الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، ومبادرة الامير تمنحهم هذه الغاية، وهنا يكمن التوازن وهو ذات العدل. وعلى أية حال، فمن لا ترضيه المبادرة، فعليه تقديم البديل، بديل يحقن الدماء، ويعيد الحياة الى الشباب، والبسمة الى وجوه الاطفال، والأمل الى قلوب الامهات. أما العنف، سواء من هنا أو هناك، فإنه في النهاية حل الضعفاء، وان بدوا من خلاله وكأنهم هم الاقوياء.

وتطرق حديث الامير الى العلاقة مع اميركا، حين سأله فريدمان عن لماذا لم تعتذر السعودية للولايات المتحدة عن اشتراك خمسة عشر شابا من مواطنيها في احداث الحادي عشر من سبتمبر. فكان جواب الامير: «نحن ظللنا اصدقاء لاميركا لمدة طويلة جدا، ولم يدر بخلدنا انها يمكن ان تشك في هذه الصداقة. نحن شعرنا ان هذا الهجوم الذي قام به بن لادن وجماعته، موجه الينا بنفس القدر، وكان الغرض منه تدمير العلاقة بيننا وبين الولايات المتحدة. وقد اصابنا حزن عظيم من جراء هذا الهجوم ولم نكن نعتقد انه سيقود الى هذا التوتر بيننا. ولكننا عرفنا ايضا اننا نستجيب للاحداث بطرق مختلفة، وما تزال الفرصة سانحة لنعبر عن اسفنا». نعم، فما فعله بن لادن وقاعدته كان الهدف منه دق اسفين بين شرق اسلامي مفترض، وغرب صليبي مفترض عامة، وبين العرب واميركا خاصة، وبين السعودية واميركا فيما هو أخص. ولكن هناك سؤال يدور في الذهن حول طلب فريدمان اعتذارا من السعودية عما حدث في سبتمبر: ولماذا تعتذر السعودية؟ هل كانت وزارة الداخلية السعودية، أو الاستخبارات السعودية هي التي أمرت هؤلاء بأن يقوموا بما قاموا به؟ وهل من قاموا بالعمل ينتمون الى الحرس الوطني أو الجيش السعودي؟ من قام بالعمل هم مجموعة من افراد ينتمون بجنسيتهم الى السعودية، لكن هل ان السعودية كدولة مسؤولة عن تصرفات مواطنيها الفردية، وحتى الجماعية؟ ان تأسف السعودية لما حدث، مسألة واردة ومطلوبة، ولكن ان تعتذر، فهذه مسألة فيها نظر. ما حدث كان جريمة بكل المقاييس، لكن الجريمة تحدث في كل بلد وكل مجتمع، ومسؤولية الدولة ان تطبق قوانينها، فتعاقب من يستحق العقاب، وتقوم من يستحق التقويم، وتعدل ما يمكن تعديله من أوضاع قد تكون دافعا لهذا السلوك أو ذاك، لكنها غير مسؤولة عن ذات الجريمة ومرتكبيها.

وعودة الى حديث المبادرة، نقول نعم، فإن الكرة الآن في الملعبين الاسرائيلي والاميركي، فماذا هما فاعلان؟ الأيام القليلة القادمة كفيلة بتقديم الجواب: فإما ان تتبين صدقية الموقف الاميركي والاسرائيلي معاً، وإما ان يتبين ان كل حديث عن السلام من قبل شارون، ومكافحة الارهاب من قبل بوش، ما هو إلا حديث خرافة. فالسلام مطلوب، لكن على الجميع ان يدفع الثمن، وليس طرفا دون آخر. ومكافحة الارهاب واجبة، لكن على ان يوصم كل ارهاب بصفته ارهاباً، وليس ارهاباً دون آخر. وعلى أية حال، فقد القى الامير عبد الله حجرا في مياه آسنة، وبانتظار جواب شارون: فهل يغتنم هذه الفرصة التاريخية ويسعى فعلا الى السلام، أم يبقى سجين أوهامه، وحبيس غطرسة قوة لا يمكن ان تبقى الى الأبد، ويكون هو الخاسر في النهاية؟ بل ان السؤال موجه حقيقة الى الشعب الاسرائيلي: هل تريدون السلام، أم انكم على خطى الدمار تسيرون؟ مبادرة الامير عبد الله امتحان لكافة الأطراف، العربي والاسرائيلي والاميركي، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.