قراءة في العقل الأمريكي من خلال «رسالة أمريكا»

TT

لا شك ان رسالة الستين مفكرا امريكيا التي نشرتها صحيفة «لموند» الفرنسية (8 فبراير 2002)، تمثل اهم وثيقة فكرية صادرة عن العقل الامريكي بعد احداث 11 سبتمبر، ليس فقط من حيث مضمونها ومحتواها، وانما كذلك من حيث الاسماء التي وقعتها.

وتشمل هذه اللائحة كل الوجوه الثقافية المعروفة من كبار الاساتذة الجامعيين والمحللين السياسيين ورؤساء مراكز الدراسات والبحوث والفلاسفة وعلماء الاجتماع. ومن بين هؤلاء اسماء ترددت كثيرا في الآونة الاخيرة مثل فرانسيس فوكوياما وصمايل هانتغتون، واسماء معروفة في الاوساط الفكرية المتخصصة مثل الفيلسوف ميكائيل فالزر وعالم الاجتماع اميتاي اتزيوني المعروف بولائه لاسرائيل وقد كان مستشارا للرئيسين كارتر وكلينتون، والمفكر الاقتصادي المحافظ ميكائيل نوزفاك وزميله دافيد بلانكهورن مؤسس معهد القيم الامريكية.

والرسالة الطويلة في مجملها دفاع عن قيم النموذج الامريكي وتأييد قوي للحرب التي اعلنها بوش ضد الارهاب، وكانت الساحة الافغانية معتركها الاول.

وتتوزع الوثيقة الى ثلاثة محاور اساسية هي: تحديد واضح للمرجعية القيمية الشاملة التي انطلاقا منها تتحدد المواقف من النماذج المجتمعية والسلوكية، وضبط مفصل لقيم النموذج الامريكي في جوانبه السلبية والايجابية، وتقديم مسوغات وحجج الوقوف مع «الحرب ضد الارهاب» من حيث كونها «حربا عادلة واخلاقية».

اما المقاييس العقدية التي ينطلق منها المفكرون الامريكان فهي مصادرات خمس، اعتبروها ملزمة لجميع الديانات والثقافات، تنبع من الطبيعة الانسانية ذاتها: الايمان بحرية البشر ومساواتهم في الكرامة والحقوق، اولوية الانسان وواجب حمايته والرفع من مستواه، اتجاه البشر الطبيعي الى البحث عن الحقائق والغايات القصوى للحياة، الحق المطلق في حرية التعبير والاعتقاد، عدم مشروعية القتل والعنف باسم الدين.

فهذه القيم المرجعية تجد تعبيرها الابرز حسب الوثيقة الامريكية في النموذج الامريكي، على الرغم من الصورة المشوهة الشائعة لهذا النموذج، وان كان موقعو الرسالة يقرون ببعض الهنات في نمط الحياة الامريكي من قبيل طغيان الثقافة الاستهلاكية، والمغالاة في الحريات الشخصية، وفي الفردية الانانية، وتراجع مؤسسة الزواج والاسرة.

ولكن هذه القيم السلبية لا تمس في الجوهر، حسب الوثيقة، اساس النموذج الامريكي القائم على قيم ايجابية فريدة، لا تتوفر لغيره (حتى داخل الفضاء الغربي بمفهومه الاوسع).

ولقد صاغ هذه القيم بناة الدولة وقادتها، وعبر عنها اعلان الاستقلال وخطاب الوداع الذي وجهه جورج واشنطن للأمة، والخطاب التأسيسي الثاني الذي القاه آبراهام لينكولن، ورسالة مارتن ليثر كينغ من السجن.

وابرز هذه القيم قواعد عقدية وسلوكية اربع، هي رسالة امريكا للعالم:

اولاها: اعتبار الكرامة الانسانية حقا فطريا لكل انسان، وكذا يتوجب معاملة الانسان بصفته غاية في ذاته، وليس وسيلة من الوسائل. وتمثل الديمقراطية التعددية التعبير السياسي عن هذا المبدأ.

ثانيتها: وجود حقائق خلقية شاملة ملزمة لجميع البشر، دعاها الآباء المؤسسون «قوانين الطبيعة وقوانين طبيعة الرب».

ثالثتها: ما دامت معرفتنا الفردية والكلية بالحقيقة ناقصة، يتعين ان نناقش هذه القيم بتسامح وروح مدنية بحسب البرهان العقلي.

رابعتها: تأكيد حرية الاعتقاد وحرية الممارسة الدينية. ويذهب المفكرون الامريكان الى ان هذه القيم شاملة وملزمة، وتؤسس مفهوم المواطنة المفتوحة، وتميز النموذج الامريكي، اذ لا توجد أمة اخرى في التاريخ بنت بوضوح هويتها ودستورها ونصوصها المؤسسة وادراكها لذاتها على قاعدة قيمية انسانية شاملة.

ومن ثم لا معنى للقول ان هذه القيم خاصة بالثقافة الامريكية او الغربية اجمالا، كما لا معنى لرفضها من منطلق ديني، فالمجتمع الامريكي وان تبنى العلمانية مسلكا، إلا انه اكثر المجتمعات الغربية تدينا ويرفض انتهاج العنف باسم المقدسات الدينية الذي هو في الحقيقة نمط من الوثنية يفضي الى تسخير الدين لاغراض البشر ونوازعهم، كما يرفض العلمانية المعادية للدين من منطلق الايمان بأن البحث عن القيم القصوى بعد اساسي ثابت في المجتمعات البشرية.

من هذه المنطلقات، تخلص الوثيقة الى دعم الحرب الامريكية الراهنة ضد الارهاب، بصفتها حربا عادلة ومشروعة، تستمد صدقيتها ومشروعيتها من القانون الاخلاقي الطبيعي ذاته، اي من واجب حماية البشر من الشر، والدفاع عن البريء ومكافحة الظلم والوقوف ضده. فالحرب الامريكية الحالية هي من هذا الوجه دفاع عن مبادئ حقوق الانسان وعن كرامة البشر، في افق امكانات وضرورة تأسيس عدالة شاملة على المستوى الانساني برمته. وتنتهي الرسالة بنداء مفتوح الى المسلمين، ترفع شعار الصداقة والتكامل وواجب التفاهم والتعايش السلمي.

تلك ابرز الافكار الواردة في رسالة المفكرين الامريكيين التي اطلقوا عليها «رسالة أمريكا»، وهي بدون شك وثيقة نظرية هامة، تطرح اسئلة جوهرية، وتستثير وقفة تحليل وتعليق.

في هذا السياق، يتعين الوقوف عند ثلاثة اشكالات محورية:

أولها: ما هو الحد الفاصل بين المصادرة الفلسفية بوجود حقائق معيارية شاملة تحكم سلوك البشر والعلاقات في ما بينهم والاتجاه الدائم لتحويل قيم حضارية فردية الى كليات شاملة ملزمة لعموم البشر.

ثانيها: ما الذي يميز قيم النموذج الامريكي عن الاطار الفكري والمجتمعي الغربي الحديث (قيم الحداثة والتنوير)؟

ثالثها: ما مدى انطباق هذه المرجعية العقدية على حرب الارهاب التي اعلنتها الادارة الامريكية بعد احداث 11 سبتمبر.

أسئلة نعالجها في الاسبوع القادم.