محاولة قلب الجدية الى إحراج

TT

الطريقة التي تعاملت بها بعض القيادات الاسرائيلية مع طرح الامير عبد الله بن عبد العزيز تدعو الى الاستغراب حقاً. فما عرض، سواء من حيث المضمون او التوقيت، يشكل نقلة نوعية ضخمة، نحو إعادة تحريك مسيرة السلام في منطقة الشرق الاوسط. وعندما يقال «مسيرة السلام» فالمعنى المنطقي لهذه العبارة هو التحرك نحو سلام عادل ودائم وشامل يغطي كل الجزئيات والتفاصيل ويفرض على التفاهمات روح الالتزام الصادق.

وقد كان لافتاً بالفعل توقيت طروحات الامير عبد الله. فمن ناحية وصل «الخيار الشاروني» فعلياً نهاية الطريق واخذ يستنزف نفسه بمكابرة غريبة. ومن ناحية ثانية وبسبب إفلاس ذلك الخيار صار توسيع دائرة الهروب الانتحاري متمثلاً بالتهديد بإعادة احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة منزلقاً لتوريط قوى عدة المطلوب منها المساعدة على تسهيل السلام.. لا النفخ اكثر في رماد الحرب. ومن ناحية ثالثة، جاءت هذه الطروحات لتنفس احتقاناً مشبوه الغايات يتعمد زج الاسلام في عداء مفتوح مع الغرب ومن ثم استثماره واستغلاله ضد المسلمين في كل مكان، وبخاصة الاراضي الفلسطينية المحتلة.

الا ان اول التصريحات الرسمية الصادرة عن القيادة الاسرائيلية جاءت تماماً كما توقع المراقب المتشائم. فعلى ألسنة الناطقين الرسميين الاسرائيليين كان هناك ترحيب بالطروحات كمبادرة، ولكن مع اعتبارها منطلقاً ثمة خلاف على نقاطه. وهذه عادة مألوفة مع الدبلوماسية الاسرائيلية التي تسعى الى الاستدراج عن طريق الترحيب بالاطار العام، ومن ثم نسف الجوهر والمضمون. وبلغ هذا التلاعب الذروة عندما عرض رئيس الدولة الاسرائيلي موشي قصاب التوجه الى الرياض لمقابلة الامير عبد الله او ان يقوم الامير بزيارة الى القدس...

والحقيقة ان كلاماً كهذا، مخصصاً للاستهلاك الاعلامي، كثيراً ما يؤخذ على محمل الجد في مجتمعات كالمجتمع الاميركي. ولا شك ان إسرائيل تتعمد ترويج لعبة «التجاوب والايجابية» على المشاهد الاميركي الذي يلقنه التلفزيون ما يطيب له حول ازمات الشرق الاوسط. غير ان الساسة العرب، وفي طليعتهم هنا الامير عبد الله، يريدون حلولاً جدية لا «خبطات» إعلامية رخيصة الغاية منها تسخيف اسباب النزاع وجذوره... ورد كرة التلويم والاتهامات الى نصف الملعب العربي.

ان طروحات الامير عبد الله «تصلح كمنطلق» ـ كما يزعم المعلّقون الاسرائيليون ـ، فقط عندما تنكبّ السلطة الاسرائيلية على الخوض صراحة في جوهر النزاع، وإعلان مواقفها القاطعة إزاء نقاط الخلاف. وهذه النقاط معروفة وواضحة. فهناك الانسحاب الكامل الى حدود 1967، وقيام «الدولة الفلسطينية المستقلة» بموجب قرار الامم المتحدة 242، ونزع المستوطنات، والبت في موضوع القدس، وحسم قضية اللاجئين. وما نعرفه حتى الآن هو ان الحكومة الحالية في اسرائيل ترفض كل هذه النقاط المبدئية.

أما العودة الى نغمة الـ«نعم... ولكن» فهذه محاولة لتحويل الجدية الى إحراج، وحيلة ما عادت تنطلي ابداً على من تعلّم على مرّ السنوات الماضية من «الخبطات» الاعلامية والمصافحات امام عدسات التلفزيون والاتفاقات الشفهية الطيّارة.