الخيط الوهمي الرفيع بين المرأة الرقيقة والمرأة الرقيق!

TT

بنى قاسم أمين رؤيته لمشروع تحرير المرأة ـ تحرير المجتمع ـ على اساسات أفكار الطهطاوي، والشيخ محمد عبده بالذات، بحسبانه محرر الصحيفة الاصلاحية «الوقائع المصرية» ومفتي الديار المصرية ومحرر مدونة أحوال شخصية إصلاحية. وكان قاسم أمين قد رافق الشيخ في باريس وربطتهما علاقة فكرية وشخصية تركت تأثيرها المتبادل بين الشيخ المصلح الاسلامي المستنير والأفندي، المحدث الليبرالي التنويري الذي انتهج لأول مرة في تاريخ الفكر العربي منهجا علميا (سوسيولوجيا ـ تاريخيا) يستقرئ ما أطلق عليه «حالة المرأة في الهيئة الاجتماعية» التي تظهر كيف ان المرأة في المجتمع البطريركي لا ينظر اليها وتعامل بصفتها فردا ـ ذاتا ـ قيمة بحد ذاتها، وانما هي مجرد معطى ـ موضوع ـ تصور، حيث ان معناها، وظيفتها، عواطفها، رغباتها، حاجاتها، هي مقامات ومرام تحدد وتشرع خارجها، وعليها ان تكيف كينونتها حسب الصورة المرسومة في ذهنية التخلف، وليس حسب هيئتها ـ كينونتها بما هي تعبير عن ذاتها بذاتها في حالة خيار واع حر! وبانحطاط حالة المرأة وانهدام كينونتها وركاكة انسانيتها، تنحط «الهيئة الاجتماعية» أي المجتمع في صورته البطريركية البالغة التخلف حيث لا يمكن له ان يكون شريكا للشعوب صانعة التاريخ والحضارة، ما لم يتحرر من عقله الخرافي ومن بنيته الاستبدادية وقراءته المشوهة لصحيح الاسلام. ولا يمكن له الانسياق في بنية العقل العلمي وتأصل المجتمع المدني ما لم يتم تحرير المرأة. فلا حضارة دون حضور المرأة الشريك الند المبدع المستقل الخلاق، أو بتعبير قاسم أمين «ولست مبالغا ان قلت ان ما اقامه التمدن الحديث (= الحداثة) من البناء الشامخ وما وضعه من الأصول الثابتة إنما شيد على حجر أساسي واحد هو المرأة» ولكن، أي امرأة! انها بالطبع تلك المتعلمة المثقفة العاملة.

ان المرأة هي الحجر الاساس التي شيد عليها قاسم أمين رؤيته الحداثوية لمجتمع متمدن تعني محور حركة اصلاحية شاملة تفعل فعلها التحديثي الملموس في التعليم والتربية والعمل والصنائع و الآداب (=الثقافة).

فهو دعا الى تربية الأمة بالتربية التي «ليست ذلك الشيء البسيط الذي يفهمه عامة الناس حيث يتصورون أنها عبارة عن تخزين كمية من المعارف المقررة في برامج المدارس، ثم امتحان ثم شهادة ليس بعدها الا البطالة والجمود. ان التربية هي العمل المستمر الذي تتوسل به النفس الى طلب الكمال من كل وجوهه».

وبهذا المعنى فإن خطر حجب المرأة ليس في ارتداء الحجاب كزي ديني لها (كما هو في تصور العلمانية المتطرفة، تركيا مثالا) وانما الخطر في حجبها عن التربية العلمية وعن العمل خارج عمل البيت، العمل المنتج الذي يعطي الانسان قيمته الوجودية، والمشاركة في الحياة العامة واحترام شخصيتها المستقلة.

لم يكن قاسم امين ذلك المثقف الليبرالي المتحرر أو الثوري الجذري الخارج على بنية العائلة البطريركية الرافض لاطروحتها الاصلاحية التلفيقية في رؤية الثورى الانقلابي، الذي لم يكنه قاسم أمين، وما كان ليكون في وقته أكثر مما كان عليه من موقف صدامي اصلاحي، لكنه محسوب ايضا، بناء على تقدير وضعي لمعطيات المجتمع بعاداته وتقاليده وصرامته العقلية وثقافته الذكورية البالية، التي تنزل المرأة منزلة المخلوق المحتقر، المساق «كالبهيمة الى زوج لا تعرفه»، وحيث المرأة التي «لا تتمكن من المشي ولا من الركوب، بل لا تتنفس ولا تتكلم الا بمشقة، تعد رقيقة»، «بينما هي رقيق وان لا تباع وتشترى في الأسواق». ولكن ليس الرقيق هو الانسان الذي يباح الاتجار به فقط، بل الوجدان السليم يقضي بأن كل من لم يملك قيادة فكره وارادته وعمله ملكا تاما فهو رقيق. «وامرأة الشرق الذكوري الذي شخصه قاسم أمين مسخ انساني مسترق» لأنها لا تعيش بنفسها ولنفسها، وانما تعيش بالرجل وللرجل، وهي في حاجة اليه في كل شأن من شؤونها، فلا تخرج الا مخفورة به، ولا تسافر الا تحت حمايته، ولا تفكر الا بعقله ولا تنظر الا بعينيه، ولا تسمع الا بأذنه، ولا تريد الا بارادته، ولا تعمل الا بواسطته، ولا تتحرك بحركة الا ويكون مجراها منه، فهي بذلك لا تعد انسانا مستقلا، بل هي شيء ملحق بالرجل. في هذا المقطع التحليلي من كتابه «المرأة الجديدة» يشخص قاسم أمين وضع المرأة المنحط، عاكسا بذلك انحطاط المجتمع الذي هو مجتمع ذكوري فج انتج (ولا يزال وان في انحسار) وضع المرأة المنحط نتيجة انحطاط وضع الرجل الذي هو صانع هذا الانحطاط التاريخي المتعفن والثقافة الفحولية الخامجة، متمترسا وراء تفسيرات ذكورية غليظة للاسلام الذي جاء سمحا عادلا! لقد جعل التفكير الذكوري المريض حضاريا من المرأة موضعا تعويضيا وتفريغيا لكبوتات الرجل الناجمة عن وضعيات قهره وعجزه وقصوره واستلاباته في مجتمعه وعصره (وتحليل ذلك يلزمه بحث مطول في آليات منظومة القهر الشرقي).

ان قاسم امين لم يكن معنيا بقضية الحجاب الشكلية كزي (فالعمامة لا تصنع الامامة)، وانما اخترق واجهة مفهومه الرائج الى تعبيراته السوسيولوجية التي تعكسها مسرودات فعل حجب، أي مظاهر الحجب عن الحياة العامة (في المدينة على وجه الخصوص) بمعنى الحجب عن العلم والعمل و.. عن العالم الذي لا تبصره المرأة.

ان غبن الحجب الحقيقي هو حجب المرأة عن استقلالها بذاتها، منعها من «الدخول في العالم الحي الذي هو عالم الفكر والحركة والعمل»، سلب حقها في تقرير مصيرها، لأن «الرجل منهم يعتبر ان له حق السيادة عليها». انه المنطق الكولونيالي نفسه الذي بمقتضاه اعتبر المستعمر الغربي ان له حق السيادة على مستعمره! لذلك يقال ان المرأة آخر مستعمرات الرجل!.

انه الرجل ـ الأب الذي يسوق المرأة ـ البنت الى الرجل ـ الزوج الذي «لا تعرفه ولا تعرف شيئا من احواله معرفة تسمح لها بأن تتبين حقيقة امره وتحصل لنفسها رأيا فيه لا تعتبر حرة في نفسها» انها كما كشف قاسم امين «في نظر المسلمين (لا الاسلام) على الجملة، ليست انسانا تاما» أي لا تكاد تكون الا مجرد تصوير لرغبة ذكورية سابقة التجهيز. صورة نمطية غبية لكائن خانع، الخنج والمكر والكيد اليات دفاعه وسلاح سلطته السرية، وعلى ذلك تكفلت المرأة نفسها عبر عصور الانحطاط المستمرة بترسيخ الصورة والتماهي فيها، بل الدفاع عنها باستماتة! والأمر نفسه، ولكن بصورة مقلوبة، نجد عند نساء البرجوازية الممسوخة المتظاهرة بحرية مفرغة من مضمونها التحرري الاجتماعي! ان الصورة التي عني بها قاسم أمين في تبيان نموذج الأنثى الرقيقة الممدوحة هي التي «تمسخ هيئتها وتفقد الشكل الانساني الطبيعي». وقاسم امين هنا يزيح الخيط الوهمي الرفيع الفاصل بين المرأة الرقيقة والمرأة الرقيق!! صحيح انها اليوم لا تباع ولا تشترى في سوق النخاسة، فقد حققت في اقطار عربية عديدة قفزة تاريخية هائلة منذ زمن قاسم امين الذي قال «ليس الرقيق هو الانسان الذي يباح الاتجار به فقط، بل الوجدان السليم يقضي بأن كل من لم يملك قيادة فكره وارادته وعمله ملكا تاما فهو رقيق». وبهذا المعنى العميق فإن مساحة الرقيق واسعة في حيز المرأة العربية الوجودي. فهي لا تزال في اوضاع كما شخصها نبيلها النهضوي الذي رأي ان ارتقاء الأمم يحتاج الى عوامل مختلفة متنوعة من اهمها ارتقاء المرأة. وانحطاط الأمم ينشأ من عوامل مختلفة متنوعة ايضا من اهمها انحطاط المرأة. وتلك معادلة جوهرية في قانون الحداثة!.

[email protected]