عرفات «يُحاصر حصاره» ويكسب الجولة

TT

لم تستهدف إسرائيل الرئيس الفلسطيني منذ أن أصبح قائداً لشعب فلسطين ورئيساً لمنظمة التحرير، كما استهدفته خلال كل شهور السنة الماضية، فقد رفع شارون، في الوقت الذي كان يحاول فيه تحطيم إرادة الفلسطينيين وخفض مستوى توقعاتهم، شعار: «ان هذا الرجل من مخلفات الماضي وانه لم يعد يصلح كشريك في عملية السلام ولا بد من أن تحل محله قيادة بديلة».

في البداية لجأ شارون إلى ضرب كل رموز السيادة الفلسطينية المتعلقة بالرئيس الفلسطيني، فقد استهدف حرسه الخاص ومقراته في غزة والضفة الغربية وفي إطار تصعيد هذه الحملة التي رافقتها حملة إعلامية مركزة، أمر رئيس الوزراء الإسرائيلي بتدمير الطائرات المروحية التي اعتاد ياسر عرفات التنقل بواسطتها بين مناطق السلطة الوطنية المقطعة الأوصال والمتباعدة.

لقد تم تدمير مطار غزة وازدادت أطواق الحصار على المقرات الرسمية الفلسطينية ووصلت الدبابات الإسرائيلية إلى مداخل المقر الرئيسي في رام الله، ثم اتخذت حكومة شارون قراراً منعت بموجبه ياسر عرفات من مغادرة هذا المقر، بينما حمّلته مسؤولية سفينة الأسلحة المعروفة لتشويه سمعته وصورته في الولايات المتحدة الأميركية وإظهاره كحليف للقاعدة وأسامة بن لادن وكشريك رئيسي في معسكر الإرهاب الدولي.

في السابق، في بدايات انتفاضة الأقصى، ركّزت الحرب النفسية، التي شنها الإعلام الإسرائيلي، على: أن ياسر عرفات لم يعد يسيطر على الوضع في مناطق السلطة الفلسطينية، وأن الخيوط أفلتت من يديه ولم يعد قادة الأجهزة ينفذون أوامره وتوجيهاته وأن هناك فراغاً قيادياً لا بد من أن يملأه أحد قادة الصف الثاني مثل جبريل الرجوب ومحمد دحلان ومروان البرغوثي.

ويبدو أن هذا الترويج الإسرائيلي قد انطلى على بعض قادة بعض الفصائل الفلسطينية المعارضة الذين يقيمون في الخارج، فقد سمعنا في هذه المرحلة من الحرب النفسية الإسرائيلية من قال إن تنظيمه هو القادر على تحقيق التوازن في الساحة الفلسطينية في حال طرد عرفات وتدمير السلطة الوطنية.

ثم بعد تنامي المقاومة بكل أشكالها وصورها، تخلت إسرائيل عن أسلوب التقليل من قيمة عرفات والادعاء بأنه لم يعد يسيطر على الوضع الفلسطيني، وأن كل الخيوط أفلتت من يديه، فأخذت بعد كل عملية، صغيرة أم كبيرة، في المدن الإسرائيلية او في الضفة الغربية وغزة، تعتبره المسؤول الأول وتتهمه بأنه هو الذي يخطط حتى للعمليات التي تستهدف المدنيين الإسرائيليين في القدس وحيفا وتل أبيب والعفولة.

لم يتوقف شارون عن شتم ياسر عرفات ووصفه بأنه «ماكنة» الإرهاب وأنه لم يعد يصلح كشريك في عملية السلام، ولقد لجأ رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى استغلال الظروف الدولية المستجدة بعد الحادي عشر من سبتمبر، وكاد يقنع الإدارة الأميركية بقطع العلاقات نهائيا مع الرئيس الفلسطيني لولا الجهود التي بذلتها دول عربية في مقدمتها الأردن والمملكة العربية السعودية ومصر، ولولا قناعات بعض كبار المسؤولين في الخارجية الأميركية بأنه لا بديل لعرفات في هذه المرحلة الدقيقة والصعبة.

وهنا وللحقيقة، فإن الموقف الداخلي الفلسطيني قد لعب دوراً رئيسياً، في إفشال محاولات شارون وإجباره على تجرع كأس السم مجدداً والاضطرار إلى التراجع عن كل ما قاله وأعلنه. ففي الأسابيع الأخيرة طرأ تحول نوعي على العمليات العسكرية الفلسطينية، فبدل استهداف المدنيين الإسرائيليين في عمليات انتحارية، كان ضررها اضعاف فوائدها، بدأ التركيز على جنود الاحتلال وعلى المستوطنين والمستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة.

لم يستطع شارون رغم كل ما قام به وفعله، ورغم أن الظروف الدولية بعد كارثة الحادي عشر من «سبتمبر» خدمته إلى أبعد الحدود من، إيجاد قائد فلسطيني يمكن أن يلعب دور سعد حداد أو انطوان لحد، كما أن التنظيمات والفصائل الفلسطينية، رغم تعارضاتها، ورغم مواقفها ومنطلقاتها السياسية المختلفة، أثبتت أنها تدرك أهمية الوحدة الوطنية كسلاح استراتيجي فاعل في هذه المواجهة التاريخية، فرفضت الانقسام وأحبطت كل محاولات التجزئة.

لقد اضطر ياسر عرفات تحت وطأة الضغط الإسرائيلي والأميركي إلى اعتقال بعض المسؤولين والقادة في عدد من الفصائل الفلسطينية المُعارضة من بينها حركة «حماس» والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كما اضطر إلى اعتبار العمليات الانتحارية داخل إسرائيل أعمالاً إرهابية، لكن ومع ذلك، فقد بقيت هذه الفصائل حريصة أشد الحرص على الوحدة الوطنية وعلى تجنب الاقتتال الداخلي، كما بقيت حريصة على عدم المطالبة بالإطاحة بالرئيس الفلسطيني رداً على ما تعرضت له وأغراها به الإسرائيليون.

ثم وللحقيقة أيضاً، فإن أداء ياسر عرفات خلال كل مراحل هذه المواجهة، لم يتوقعه كثيرون، إذْ رغم بعض الأخطاء «التكتيكية» التي وقع بها ومن بينها قضية «السفينة» التي اضطر لتحمّل مسؤوليتها كرئيس للشعب الفلسطيني، فإنه بقي متماسكاً وصامداً وبقي يدير الأمور بطريقته المعهودة، أي التراجع حتى يظن العدو والصديق والمراقب المحايد أنه على وشك رفع يديه للاستسلام، ثم الانعطاف في اتجاه معاكس حتى يشعر هؤلاء جميعاً أنه انتقل إلى دائرة الرفض والمعارضة وأنه بدأ المواجهة من جديد.

كانت حكمة ما بعدها حكمة، أن يتخلص ياسر عرفات من إثم سفينة الأسلحة، التي ربما تورط بها في لحظة غفلة، بإبلاغ الإدارة الأميركية المزْبدة المُرغية بأنه يتحمل مسؤولية هذه السفينة ليس بصورة شخصية، وإنما كرئيس وقائد للشعب الفلسطيني، وكانت حكمة أن يعتقل قتلة رحبعام زئيفي في هذه الفترة بالذات، فالقمة العربية باتت قريبة والشرخ في المجتمع الإسرائيلي أخذ يتسع بسرعة والحكومة الإسرائيلية باتت تواجه مأزق الانشطار والتشظي ولا بد من موقف فلسطيني أكثر عقلانية وواقعية.

ونتساءل هنا: لماذا يا ترى استهدف شارون الرئيس الفلسطيني بهذه الطريقة وعلى هذا النحو؟ هل لأسباب شخصية كما يقال، أم لأمور تتعلق بالعملية السلمية ومستقبل تسوية القضية الفلسطينية؟

هناك من قال، ومن بين هؤلاء عرفات نفسه، إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بحربه السياسية والنفسية والعسكرية على الرئيس الفلسطيني على هذا النحو، أراد تسوية حسابات قديمة وأراد الثأر لهزيمته المنكرة في عام 1982 عندما غزا لبنان تحت شعار تدمير البنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فوجد هذه المنظمة التي ذهب لتدميرها في بيروت، بعد عشرة أعوام أمامه في غزة ورام الله وفي القدس أيضاً.

لكن مع أخذ هذا العامل النفسي بعين الاعتبار، فإن السبب الحقيقي لهذه الحرب المسعورة القذرة التي شنها شارون ويشنها على ياسر عرفات، هو التسوية نفسها، فرئيس الوزراء الإسرائيلي بات مقتنعاً بأن حلاً للقضية الفلسطينية بالمواصفات والشروط التي يريدها ويسعى اليمين الإسرائيلي لفرضها على الشعب الفلسطيني تقتضي استبدال أبو عمار بعد أن فشلت كل محاولات إركاعه ودفعه للاستسلام ورفع يديه.

لقد رفض ياسر عرفات، رغم كل التنازلات التي قدمها وأقدم عليها، التخلي عن بعض الأمور التي اعتبرها ثوابت فلسطينية مقدسة، ومن بينها الدولة الفلسطينية على كل أو معظم الأراضي التي احتلت في يونيو عام 1967 وعاصمتها الجزء الشرقي من القدس، ولذلك وبما أن خطة شارون تصر على دولة مجزأة على أقل من %42 من الضفة الغربية وغزة، وبدون القدس، ومع عدم ذكر قضية اللاجئين ولا تغيير وضع الحدود على طول نهر الأردن، فلا بد إذاً من تغيير الرئيس الفلسطيني واستبداله بآخر على غرار انطوان لحد يقبل بكل هذه المواصفات والشروط الإسرائيلية.

لكن شارون الذي تفاقمت أزمته وفشل في تحقيق شعار «الأمن» الذي رفعه عنواناً لحملته الانتخابية، والذي لم يستطع العثور على انطوان لحد الفلسطيني، الذي يمكن أن يقبل بأن يكون بديلاً للرئيس الفلسطيني وجد نفسه مضطراً لمدِّ يده للرجل الذي حاول التخلص منه طالما أن ياسر عرفات، كما يبدو، مضطر أيضاً للتعايش مع السيئ ما دام أن البديل هو الأسوأ أي بنيامين نتنياهو.

.. وهكذا، فقد بدأ شارون رحلة التراجع منذ فترة متقدمة عندما أرسل ابنه «عمري» في زيارات متلاحقة إلى ياسر عرفات، وعندما أخذ في وقت لاحق، إجراء مفاوضات مع اثنين من كبار مساعدي الرئيس الفلسطيني، هما أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير محمود عباس (أبو مازن)، ورئيس المجلس التشريعي أحمد قريع (أبو علاء).

تذكر إحدى الروايات، ان شارون عندما كان لا يزال ضابطاً صغيراً طلب من أول رئيس وزراء لإسرائيل ديفيد بنغوريون، أن يمنحه رتبة أعلى، وكان جواب هذا الأخير أنه مستعد لترقيته إن هو (أي شارون) توقف عن الكذب الذي كان يشتهر به.

ولعل ما يدل على أن شارون لم يتخلَّ عن عادة الكذب هذه، أنه وبينما كان يواصل التأكيد على أنه لا يعتبر عرفات موجوداً، اضطر للاستجابة إلى شرط محمود عباس وأحمد قريع وأرسل أحد مساعديه إلى الرئيس الفلسطيني ليطلب منه السماح لهذين المسؤولين الفلسطينيين بلقائه.. ولعل ما يدل أيضاً على أن رئيس الوزراء الإسرائيلي لا يقول الحقائق للإسرائيليين، ربما خوفاً من بنيامين نتنياهو وأحزاب وقوى اليمين المتطرف، أنه عندما التقى أبوعلاء وأبومازن أبلغهما شكره لعرفات على موافقته على هذا اللقاء، وعندما ودعهما حمّلهما تحياته للرجل الذي يصفه علناً بأنه «ماكنة» الإرهاب.

ان الأمور لم تحسم نهائياً بعد، لكن الواضح أن عرفات قد كسب الجولة وأن الذي سيُستبدل هو شارون وليس أبوعمار الذي كان الشاعر الكبير محمود درويش قد قال له في معلقة طويلة خلال حصار بيروت: «حاصر حصارك يا أخي.. حاصر حصارك».. وها هو الرئيس الفلسطيني الذي يقود شعباً لم يخذله أبداً، يحاصر حصاره، فرئيس الوزراء الإسرائيلي هو الذي يكابد مأزقاً حقيقياً عنوانه أزمة اقتصادية خانقة وأزمة سياسية تحاصره من كل جانب وضباط يرفضون الخدمة في المناطق الفلسطينية يزداد عددهم يوماً بعد يوم وجنود ومستوطنون يسقطون صرعى على الحواجز والطرقات ويهود جاءوا بأحلام الأرض الموعودة باتوا يهاجرون في كل اتجاه هرباً من هذه الأرض التي أصبحت جحيماً لا يطاق.