ولدت الدولة الفلسطينية.. ولكن؟

TT

تولد الآن الدولة الفلسطينية كما تلد المرأة بعد ان اكتمل تشكل الجنين في ظلمات ثلاث. وتولد هذه الامة الآن بين النزف والألم. ولم تلد امرأة قط بدون دماء. ولكن اذا زاد التشنج تكزز الرحم واختنق الوليد، وإذا لم يتقلص الرحم ـ ومعه الألم ضريبة لازبة ـ لم يخرج الجنين الى الحياة، فهذا قانون وجودي في تواتر الشدة والاسترخاء حتى تنضج الاشياء بنار المحنة فتملك قدرة وقدر الخروج للحياة.

وعندما تلد المرأة تحتاج لقابلة ومشفى، وفلسطين تنزف الآن في مشفى اسمه ارض المعراج. كما ولدت مريم من قبل فاجأها المخاض الى جذع النخلة فقالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. واعجب ما في العملية ان (شارون) يقوم بدور القابلة من حيث لا يعلم. ولكنها ارادة القدر ان يسخر فرعون ليربي موسى في حجره ليكون لهم عدوا وحزنا. ان فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين.

ولكن المشكلة ان الولادة ليست سوى اول المشاكل، ويعرف الاطباء ان الوليد اذا جاء لا يعني مجيئه شيئا وقد يكون عدم مجيئه أفضل من مجيئه، اذا كان يحمل من العيوب الخلقية ما يجعله غير قابل للحياة. وأي وليد يبدأ رحلة التشكل الى الحياة يحتاج للإجابة على ثلاثة اسئلة: في (تكوينه) و(طريقة ولادته) وفي (الوسط) الذي يستقبله. فإن حرم دماغه من الاكسجين دقائق احترق بغير رجعة مثل أي شريحة الكترونية صعقتها الكهرباء. وقد تكشف طبيبة الاشعة بالسونار انه يعاني من صغر في الدماغ أو بالعكس انحباس مجاري المياه فيصاب بالعرطلة. فلا صغر الدماغ يعين على الحياة، ولا ضخامة الرأس دليل على العبقرية. وقد يحوي جسمه من اخطاء التشوه ما يندم أو يتألم عليه الأهل بقية العمر مثل المنغولية، حتى تعمل الطبيعة على طريقتها الخاصة فتنهي حياته بسبب وآخر.

فلسطين تنزف ولكن الدماء مؤشر جيد على اقتراب موعد انضمام انسان جديد الى الجنس البشري. ولم تجر عملية جراحية بدون نزف قليلا كان ام كثيرا. والجراحة الجيدة هي التي توفر كمية النزف الى الحد الأدنى مع خروج المريض من عملية ناجحة. ولا يعني كثرة النزف ان من يقودها جراح لامع. وعندما يختفي القمر يعني الولادة لهلال جديد. وعندما يهطل المطر مدرارا ويشتد البرد يعني التمهيد لقدوم الربيع وتدفق الحياة في مفاصل الكون. وعندما يشتد الظلام يكون مؤشرا ان الليل قارب الانقلاب وان انبلاج الصبح وشيك. فألق الإصباح يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون. وعندما اشتد العذاب المهين على جن نبي سليمان قال كبيرهم: ابشروا فقد اقترب الخلاص، واشتدي ازمة تنفرجي قد آذن صبحك بالبلج. وفعلا كانت جثة سليمان باردة منذ زمن بعيد. وما دلهم على موته إلا دابة الارض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن ان لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.

إن هذا الكلام قد يشتم منه رائحة عقلية غيبية ولكنه في الواقع مقارنة فلسفية تاريخية بيولوجية.

عندما جاء موسى لبني اسرائيل وقد اشتد عليهم العذاب ولم يشعروا بفرق في الوضع فقالوا «أوذينا من قبل ان تأتينا ومن بعد ما جئتنا؟» ولم يدركوا ان الجو كان يختمر وان الليالي حبالى بالنبأ العظيم. وكان موسى يعرف تماما ان كل التحدي هو ليس في الخلاص من فرعون ولكن ماذا يفعل بنو اسرائيل بعد التخلص من فرعون. فقال لهم: «عسى ربكم ان يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون». ويفرح بعض العرب اليوم ان ترحيل النظام العراقي اصبح مطروحا، ولكن امريكا تريد ان تبدل فرعون بفرعون، بما لا يفيد العرب ويفيد امريكا دوما. واخطر من هذا هو ان بقية فراعنة المنطقة الصغار سوف يشعرون ان اهرامات كل واحد منهم اصبحت قريبة التناول للهدم والردم. واكبر تحد يواجه الفلسطينيين هو ليس الخلاص من يهوذا الاسخريوطي ولكن مجيء عيسى المخلص. وفي تقرير روبرت فيسك الصحفي البريطاني اشارة غير مريحة الى الفساد الذي يغرق فيه رموز هامة من القيادة الفلسطينية.

ان قانون المحنة وجودي يتخلل كل مستويات الكون وشرائح الوجود، من معاناة الفراشة وازمة الولادة وامتحان الانبياء والتحديات في وجه الحضارة. وهناك من جرب ان يريح دودة القز فلا تعاني من قطع السجف قبل مغادرة الشرنقة ولكن لم تخرج منها فراشة تطير. ومن مشى في طريق ليست فيه تغيرات تسلط عليه النعاس وقد يعمل حادثا مروريا. والكسل لم يوقظ الروح ابدا. وكل الافكار ولدت في اجواء المعاناة. وليس هناك من خبرة خالدة مثل التي تمتزج بالمعاناة. والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين. وكل الافكار الرائعة في التاريخ التي اوحي بها الى الفلاسفة مثل باسكال وابن سينا وديكارت والغزالي تولدت في جو نفسي مشبع بالانفعال. ولا تصل النفس الى الطهارة ما لم تغتسل بدموع العذاب. ولقد خلقنا الانسان في كبد. ولم يطهر الحديد من الخبث مثل تعريضه للنار. كما ان المعادن ما اندمجت قط في خليطة قوية لولا الحرارة العالية. وتشكل الماس وهو كربون فالتمع الى اقصى درجة بفعل الضغط الجيولوجي. وليس هناك من صداقة مثل التي نشأت في اجواء الخوف المشتركة. ولم تنبثق الحضارات إلا في ظروف التحدي المناسبة. وفلسطين ليست شذوذا على هذا القانون، وان تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون. بل قد يكون خلاص العالم العربي من هذا الثقب الصهيوني، والمؤرخ البريطاني (توينبي) اعتبر منذ زمن بعيد ان وجود اسرائيل يشكل (منخسا) حضاريا للاستنفار، وانه بمثابة المنبه المناسب ليقظة المنطقة، وان ولادة اسرائيل في المنطقة هي في طرف منها جيدة مثل وجود الشيطان في العالم، ووجود الشر في تضاعيف الخير، والملح في الطعام، كما راهن (توينبي) على زوالها ولو بعد حين، ولذا فالاسرائيليون يكرهونه لأنه تنبأ بنهايتهم. واليوم تقوم دراسات مكثفة على الحملات الصليبية السبع ولماذا فشلت حتى يستخلص الدرس ان لا تنتهي بنفس الكارثة. وطوبى لمن استفاد من دروس التاريخ فلم يكرر الخطأ.

ان المؤرخ الاسرائيلي (روي فين موسكوفيتش) شهد على قومه انهم يركبون القطار الذي يمشي عكس اتجاه التاريخ. اما الكاتب الاسرائيلي السلامي (أوري افنيري) فهو يرى ان حلم اسرائيل الكبرى دفن بغير رجعة. وهناك من يرى ان اسرائيل ارتكبت اخطاء قاتلة: في وجودها اولا. وثانيا بحرب 67م فلم تخرج من الاراضي العربية بعد احتلالها فانطبق عليها ما انطبق على هرقل الذي لبس القميص المسموم. وثالثا في اخراج الفلسطينيين من لبنان فانتقل القرار من يد الحكام العرب الى الفلسطينيين وانفجرت الانتفاضة الاولى بعد ان لم يبق لهم ظهر يلجأون اليه. والخطأ الرابع كان في اوسلو. وبقدر ذكاء اليهود بقدر حماقتهم. وبقدر عبقريتهم بقدر جنونهم كالذي يتخبطه الشيطان من المس.

انني أرى امامي ولادة الدولة الفلسطينية في بضع سنين ولكن التحدي ليس في التخلص من النظام الصهيوني، بل كل التحدي هو في بناء نظام افضل.

ان قانون المحنة ينص على ان النفس عندما تتجاوز عتبة وتنجح فيها يتم اختبارها في العتبة التالية بما هو اشد ثقلا في التحدي. وفي اللحظة التي يظن الانسان انه انتهى يكون قد توقف عن الصيرورة وهو موت في الحياة قبل الموت، لأن الاختبارات لا تتوقف عن المتابعة. ولعل اختبار الموت في الحياة يكون الاختبار الاقسى والأعظم، والمشكلة فيه ان الفرد يدخل وحيدا فلا يرجع ويروي خبرته.

وبعد ولادة الدولة الفلسطينية سيبدأ الاختبار الأعظم من نوعه. بكلمة أخرى عندما ينزل هذا الجنين الى الحياة هل سيكون مليئا بالاخطاء الوراثية؟ هل سيكون دولة عربية من نماذج بعض الدول العربية لا يعمل فيها شيء بدقة سوى اجهزة امنية بأحجام الديناصورات؟

ان كل المؤشرات توحي باقتراب ولادة الجنين الفلسطيني فقد انتهى عصر الحروب مع الدول العربية، وهناك مغص داخلي داخل احشاء اسرائيل، مثل آلام الولادة. وانتقل الصراع العربي ـ الاسرائىلي الى داخلها بعد ان كان خارجها وعلى حوافها. وهناك مظاهرات اسرائيلية وتمرد في القوات المسلحة يأبى فيها الناس ان يتحولوا الى أدوات بيد الطغيان يقتلون الناس على الأوامر. وهو من جديد مؤشرات القوة في المجتمع الاسرائيلي ان الناس عندهم قدرة الاعتراض، وليس مثل مظاهر الموت في المجتمع العربي، فلا تخرج مظاهرة بدون مسرحية مرسومة لها من رجال الامن. وفي هذه النقطة يكمن التحدي الاكبر هل سيبني الفلسطينيون مجتمعا متفوقا بعناصر قوة مثل التي يتحلى بها المجتمع الاسرائىلي؟ ام سيكون دولة تصفق لزعيمها الى الأبد وتمنحه صفات العظمة والعصمة؟ وعلى جدران هذه الدولة ترفع صور هائلة براقة لمركب الأقانيم الثلاثة؟

بكلمة مختصرة هل سيكون اقرب للتوحيد ام الوثينة؟ وإنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن اسلم فأولئك تحروا رشدا واما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا.

اخشى ان ينطبق على الفلسطينيين ما جاء في كتاب كليلة ودمنة عن قصة الرجل والذئب والحائط: «يروى ان رجلا عزم على السير فاختار طريقا يعرف وعورته مخافة اعتراض السباع ووحوش الارض ففوجئ بذئب ضار يلاحقه فهرب منه فوجد قرية في الوادي بجانب نهر فهرع اليها للنجاة فلم يجد قنطرة يعبر فوقها الى القرية. ولما أبصر بالذئب يشتد اليه رمى نفسه في الماء وهو لا يعرف السباحة، فالغرق في بطن الماء يبقى أرحم من اسنان الذئب. وكان محظوظا فأبصره اهل القرية واسرعوا لانقاذه من لجة الماء قبل ان يهلك فخرج ينفض عنه البلل والموت. وعندما استراح قليلا أبصر في عدوة الوادي بيتا مهجورا فآوى اليه كي يلتقط انفاسه من الموت الذي كاد ان يخطفه مرتين، فلما وطأ عتبة البيت كانت مفاجأة ثالثة بانتظاره، فقد اجتمع نفر من عتاة اللصوص يقتسمون مال تاجر موثوق بالحبال بين ايديهم، فلما رأى المنظر فر هائما على وجهه يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم من نحس هذا اليوم المستمر فتوجه الى حائط مرتفع يختبئ خلفه ولم ينتبه الى انه حائط قديم متصدع يكاد ان ينقض وبمجرد ان استند اليه تهاوى عليه فمات تحته».

ان الافراد يموتون كما ان للأمم آجالا فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون. ولكن المشكلة في موت الامة انها لا تنتهي بيولوجياً، بل يبقى افرادها مثل حجارة الطوب، جاهزين للدخول في بناء امة أخرى.

[email protected]