أنا مهم بمنصبي ونفوذي.. إذن أنا معصوم من الخطأ

TT

الصلاحيات والسلطات المخولة في أنظمة الحكم الديموقراطية لرئيس الجمهورية في الجمهوريات أو رئيس الوزراء في الملكيات من الاتساع والتأثير باعتباره قمة السلطة التنفيذية، فهو رئيس الحزب الحاكم الذي يترك بصماته على برنامجه الانتخابي، والذي يقوم بتشكيل حكومته ويقيم التوازن المطلوب بين اجنحة الحزب المختلفة بداخل مجلس وزرائه، ويعدل في تشكيل هذا المجلس بما يتمشى مع المراحل التي يمر بها المجتمع والظرف السياسي، وهو الذي يضع الشكل النهائي لجدول اعمال مجلس الوزراء ويلخص اتجاهاته. اما اذا توافرت له، الشخصية والظرف السياسي المناسبان فيستطيع الى حد كبير تحويل مجرى اتجاه السياسات واسلوب ادائها، الأمر الذي يبدو فيه وكأنه يقود الرأي العام بدلا من السير وراءه خطوة كما يحدث في اغلب الأحيان. لكن في ممارسة رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء لهذا النفوذ فإنه ليس مطلق اليدين لا يرد على ارادته قيد في فرض سياساته وبرامجه فرضا على كبار رجال حزبه أو اعضاء حكومته أو الرأي العام. فالتراضي والتوافق العام من الفضائل السياسية في الديموقراطيات وهو يستلزم حوارا لا ينقطع لا مع اعضاء حكومته ومجموعته البرلمانية، بل حوارا وتفاهما كبيرين مع احزاب المعارضة وجماعات الضغط في كافة اشكالها وبالذات المنظمات غير الحكومية، حتى ان في بلد كبريطانيا كثيرا ما يعكس واقع الحال المقولة المشهورة: الحكم للحكومة والنفوذ للمعارضة. وقد انتقد بشدة هارولد ويلسون ـ رئيس الوزراء العمالي الأسبق ـ لما لوحظ عليه من اجتماعه مع عدد قليل من اعضاء مجلس وزرائه قبيل اجتماع مجلس الوزراء الاسبوعي، وسميت هذه الجماعة kitchen cabinet واعتبرت مخالفة للأعراف التي تحكم اجتماعات المجلس. فالمبدأ في أي نظام ديموقراطي ان لا تجور سلطة ما ـ ولو كان رئيس الدولة أو رئيس الوزراء ـ على سلطات اخرى والا اشتكت دعائم الدستور. فرئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء له رأي لكن ليس له كل الرأي ويتعين ان تكون لغيره آراء اخرى كتعبير عن ممارستهم لمسؤولياتهم وواجباتهم في المشاركة في الحكم، بتعبير آخر، ليس هناك فيتو من الديموقراطيات وانما هناك دائما استعداد لدى قمة السلطة في الاقناع والتأثير بالحجة حتى انها تفضل سحب بعض سياساتها التي ترغب فيها لوقت آخر يكون زملاء رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أكثر استعداداً لقبول تلك السياسة، خاصة اذا مهد لها تمهيداً مناسبا لدى الرأي العام أو لدى جماعات الضغط المعنية. لكن بالاضافة الى هذا المبدأ الهام فهناك ركيزته الاساسية وهي: ان المنصب لا يضمن سداد الرأي لأن سداد الرأي لا يرتبط بالقوة أو النفوذ.

لهذا فأنت لا تدهش عندما تقرأ في الصحف البريطانية مؤخراً ان وزارة الدفاع البريطانية تجد مشقة كبيرة في اقناع وزير الخزانة بزيادة ميزانيتها القادمة خاصة بعد احداث 11 سبتمبر، حيث ان أولوياته من الانفاق هي التأمين الصحي والتعليم والتعاون الدولي. ويقف وزير الخزانة هذا الموقف رغم علمه أن الاستجابة لطلبات الدفاع ترضي اتجاه توني بلير لدعم استراتيجيته الدولية الجديدة كحليف للولايات المتحدة. وكل امل وزارة الدفاع هو توسط بلير ـ مجرد التوسط ـ لدى وزارة الخزانة، أو ما نشر عن تزايد الدلائل على عزم بلير انضمام بريطانيا الى اليورو، لكن العقبة الكؤود هي وزير الخزانة الذي يرى أن الظرف لا يسمح، ويشبهون موقفه بصخرة ضخمة في طريق بلير. يحدث ذلك رغم الاعتراف بأهمية دور رئيس الوزراء في رسم السياسة الاقتصادية حتى أن لقبه الرسمي الموجود على باب 10 داوننج ستريت هو First Lord Of The Treasury، أي «الوزير الأول للخزانة».

كذلك ما نشر عن تراجع بلير في اسناد منصب «أمين عام مجلس الوزراء» لشخصية من القطاع الخاص خلافا للعرف الذي يقضي باختيار احد كبار الوكلاء الدائمين بالوزارات أو قطاع الخدمة المدنية بشكل عام، والمضي في اعداد مشروع قانون بتدعيم مبدأ حياد جهاز الخدمة المدنية وعدم التأثير فيه من جانب الوزراء وللحد من الاتجاه مؤخرا من جانب بعض الوزراء بالاستعانة بخبراء من القطاع الخاص على حساب خبراء الوزارة، وذلك في وقت لا يبدي داوننج ستريت حماسا لهذا التشريع.

هذا ما يحدث في الغرب. فإذا ما اتجهنا شرقا ناحية منطقتنا العربية، رأينا شيئا عجبا. فصاحب السلطان السياسي عندنا هو في الوقت نفسه وبسبب سلطانه هو صاحب «الرأي» لا أن يكون صاحب رأي (بغير اداة التعريف) فهو صاحب الحل والعقد كما يقولون، بحيث يمنع رأيه هذا ان تكون لغيره من الناس آراؤهم. فرأي السلطان هو سلطان الآراء، وبهذا المزج العجيب بين قوة الحكم وسداد الرأي وقر لدى مجتمعاتنا أن الأقوى هو الأصوب. وهو إرث ورثناه من السلف الصالح الذي كان امرا مقبولا في زمانهم، الا ان تعاقب القرون لم ننل منه الا لماما، فنعيش في الألفية الثالثة بمفاهيم منتصف الألفية الثانية أو ما قبلها، ومن المحفوظ عن الجاحظ قوله: ان الأمر والنهي لذة أي منها لذة الحواس. فإذا نزلت الأخبار والأوامر والنواهي من أهل الطوابق العليا الى أهل الطوابق السفلى.. فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم، والأوامر بالانقياد والنواهي بالتعظيم. وأشهر من أن نذكر به ما قاله شاعرنا القديم «انما العاجز من لا يستبد».

والحقيقة التي لا ينكرها الا مكابر أو مغرض اننا خدعنا انفسنا طويلا عندما صدقنا ان النظم الديموقراطية التي اصطنعناها كفلت لنا الديموقراطية محتوى ومضمونا. فهي انظمة اضطررنا اليها اضطرارا حتى يقال عنا أننا نساير الزمن ومفاهيم الحضارة الحديثة، ونحن نعلم جميعا انها افرغت من كل مضمون وظلت قشرة بدون لباب، والوعاء وحده ـ كما يقال ـ لا يكفل لك نوع الشراب، وقد تكون صحافا ولا يكون ثريدا.

أس البلاء في مجال الفكر وفي كل مجالات الحياة من سياسة او اقتصاد او مجتمع، ان يجتمع السيف والرأي الذي لا رأي غيره في يد واحدة فتختلط السلطة بالرأى. وقد عشنا قرونا طويلة طويلة يجيء الرأي من علٍ ليهبط على رؤوس الناس هبوط القدر الذي لا يقاوم فيكون الصواب هو قبولها والطيش هو الجرأة على مناقشتها فضلا عن تجريمها. عشنا قرونا طويلة الفكرة عندنا ممزوجة دائما بشخص صاحبها وكرامته، ارفضها ترفضه معها واقبلها تقبله، فنحن لم نترب على ان نفصل بين الرأي وصاحب الرأي، ولهذا يسهل علينا دائما ان نتنازل عن آرائنا خوفا أو رغبة. عشنا، وما نزال، الكلمة عندنا لصاحب القوة، والقول النافذ لصاحب المال والجاه، والحق دائما حليف النفوذ.

اما هذا الحوار الذي نشاهده في الغرب ويصيب نفوسنا بالحسرة والألم فلا يجري عندنا الا في الظاهر ولارضاء المظاهر لأن الميراث الذي ورثناه وما نزال ننفق منه لا يجيزه الا بين المتساوين والأنداد، ومن غير المقبول او المعقول ان يجري حوار الا بين قامات متقاربة وأوزان متكافئة. فساحتنا لا تتسع الا لقامة واحدة لا تقاربها أي قامة، فكيف يوجد حوار؟ ان ساحتنا لا تتسع الا لنخلة واحدة وكل ما حولها عشب قصير، فهل سمعنا عن حوار بين النخيل والنجيل؟ وسرعان ما يُعلًّم رأس الذئب الذي أطاح به الليث لما اجترأ الذئب على عرينه، سرعان ما يُعلًّم ثعالب كثيرة ألا تفقد صوابها فتدنو بجرأتها نحو دنيا النقاش والحوار.

ان الانسان لتأخذه الحيرة والقلق كلما رأى أن ما نسير عليه الليلة ليس الا ما كان في البارحة وكأن أفلاك السماء قد جمدت في أماكنها وتيار الزمن قد وقف عن جريانه، وهو موقف نشأ عن ثقافة عشناها امدا طويلا فشكلت لنا طريقة للنظر ثم توهمنا أو أدخل في روعنا انها طريقة تمليها البداهة ولا تحتمل الجدل. لكن اكثر ما يسبب الحيرة ليس سلوك رجل السياسة فقط بل سلوك فئة كبيرة من المثقفين. فمنهم من ينادون بحقوق الانسان وينادون في الناس بأعلى أصواتهم بالمساواة والعدالة، اما ما يحيونه مع الناس بالفعل فهو شيء اخر، خصوصا عندما يكون للواحد منهم منصب له نفوذ وسلطان، وبدلا من أن يكون المثقف عونا على التغيير يصبح هذا النوع المتعالي من المثقفين اصحاب المنصب أو المركز والشهرة، اداة استمرار بين ماض وحاضر.

وفي تاريخ الشعوب لحظات فريدة يحدث عندها التحول الفكري، وبغير هذا التحول لا يكون تطور ولا يكون تقدم بل يظل السير سيرا على مستوى أفقي واحد مطرد لا فرق بين آخره وأوله، وان هذه اللحظة التي نرقبها لنتحول انما هي اللحظة التي نفرق فيها بين الرأي وصاحبه، فلا نعلو بالرأي اذا علا صاحبه ونهبط به اذا هبط، فالرأي لا يجب ان يستند الا لمنطق العقل وحده، فهو الذي يحمل مقاييس التفرقة بين الصواب والخطأ. وعندما تجيء هذه اللحظة نكون قد انزاح من امامنا واحد من اهم العوامل المعوقة في تحقيق نهضة فكرية، اذ نكون قد فككنا عن عقولنا قيودا اقرب الى الأغلال والأصفاد. عندها لن نجد من يحتج بالمادة الأولى من دستورنا الفعلي التي تتحدث بلسان الحاكم وتقول: «أنا مهم بمنصبي ونفوذي، اذن انا معصوم من الخطأ».