العقلية السورية وتناقضاتها

TT

يروي سمير عبده قصصاً كثيرة عن السوريين في كتابه الجديد «التحليل النفسي للعقلية السورية» أطرفها أنهم سألوا مواطناً سورياً: كم يساوي جمع اثنين زائد اثنين؟، فقال: دعونا نأخذ ونعطي..، وتعني بالسوري الفصيح دعونا نتحاور، ونساوم ثم نتفق على جواب.

والإشارة الذكية إلى الجانب التجاري في العقلية السورية، وكان الأجدر بالمؤلف أن ينسب قصته إلى دمشقي أو حلبي، فالحسّ التجاري ديدن المدن الكبرى، لكنه صار صفة عامة للسوريين مع أن معظمهم في البيع والشراء أخيب من الخيبة نفسها.

ولا تستطيع أن تتهم مؤلف كتاب العقلية السورية بالتحامل، فهو يحاول ان يستخدم مبضع الجراح لينقد عقلية بني قومه ويبين سلبياتها دون أن يهمل الجوانب الإيجابية فيها، وهذا عين ما فعله جمال حمدان مع الشخصية المصرية في كتاب «شخصية مصر»، لكن طموحه قطعاً أقل بكثير من مشروع راهب الفكر المصري الذي احترق في منزله نسياناً وفقراً في زمن كانت تفرش فيه الأرض بالذهب والفضة لمساعدات الراقصات، وصبيانهن وطباليهن فما بالك «بالمعلمة»!.

وسمير عبده على معرفة بمشروع حمدان في عبقرية المكان فهو ينقل عنه نقده للشخصية المصرية النمطية التي قال عنها «فنحن معجبون بأنفسنا أكثر مما ينبغي وإلى درجة تتجاوز الكبرياء الصحي إلى الكبر المرضي، ونحن نتلذذ بممارسة عبادة الذات في نرجسية تتجاوز العزة الوطنية المتزنة السمحاء إلى العزة الشوفينية الساذجة البلهاء أو الهوجاء».

ومن أم الدنيا مصر إلى أختها سورية نراجع مع هذا الكتاب الدمشقي سلبيات الشخصية السورية، فنجد المؤلف ينسب إلى العقل السوري مجموعة من المتناقضات والمتضادات منها وعلى رأسها عدم احترام القانون والعرف وبطء الإنتاج الوظيفي وتسلل النفاق الى العلاقات الوظيفية، والعقلية السورية أيضاً ـ وحسب سمير عبده ـ عقلية تآمرية ومستسلمة لغيبوبة الماضي تعيش على التاريخ أكثر مما تفكر بالمستقبل، وهي عقلية تسلطية وتنافرية متناقضة يلفها الغموض السلبي وبارعة في عمليات تبديد الوقت والمواهب.

وأشهد أنه أصاب كثيراً في هذا التوصيف للسلبيات الذي جاء بعد أن عدد إيجابيات كثيرة ترفع السوريين إلى السموات العلى، وتضعهم أقل بفترين من أية شخصية أسطورية باهرة، فهم أصحاب عقليات ريادية مبدعة ومقدامة، وزاخرة بالذكاء وحب المبادرة والمغامرة، والسوريون متدينون وصبورون يوقرون الكبير ويبجلون من يستحق التبجيل، ويحترمون السلطة.

والصفة الأخيرة لم أفهمها، ولم استوعبها ـ ومن يلومني ـ فكل من يعرف الطبيعة الانقلابية للعقلية السورية يدرك أن احترام السلطة وطاعتها آخر ما يفكر فيه السوريون وهم لا يقفون عند حدود الانقلاب النظري، والسخط الصامت، فتاريخهم القريب والبعيد يشهد بأن بعض الحكومات لم تعمر عندهم إلا بضعة أشهر وما الخمسينات والستينات عنا ببعيدة، فليسامحنا الدكتور عبده إذا رفعنا طاعة السلطة من صفات العقلية السورية، وان لم يصدقنا فليعد إلى ما قاله شكري القوتلي لجمال عبد الناصر، حين سلمه مقاليد السلطة على الشعب السوري في أول أيام الوحدة التي مرت ذكراها دون أن يتذكرها أحد في الأسبوع الأخير من فبراير (شباط) الماضي.

ومع نقض الطاعة أجدني أتساءل أيضاً لماذا أسرف المحلل النفسي للعقلية السورية في شرح ما أخذه الرومان عن الاغريق، ولم يفرد فصلاً للتفاعل التاريخي بين العقلية السورية والعقلية الرومانية، فذات يوم كان العامي يصب في نهر التيبر، وكانت سورية ترسل لروما عشرات الأباطرة وأشهرهم الإمبراطور الحمصي كركلا مخترع أول قانون للمواطنة في الإمبراطورية الرومانية والعالم وذاك الإمبراطور لا يزال اسمه على أوسع شارع من شوارع روما المعاصرة وكركلا نسبة لثوب الكركال السوري الذي تفنن السوريون القدامى في وضع فتحته من الخلف على مبدأ خالف تعرف، وهو من أهم مفاتيح الشخصية السورية.

ويحسب سياسياً لمؤلف كتاب «التحليل النفسي للعقلية السورية» انه يتحدث عن سورية الكبرى وقد وضع على الغلاف صور أعلام لبنان وفلسطين والأردن مع العلم السوري حتى يعرف القارئ المكتوب من عنوانه وزاد في الداخل في توضيح ما يقصد حين استشهد بانطوان سعادة وادبيات الحزب السوري القومي الاجتماعي، لكن هل هذا ـ الكريدت ـ السياسي مقبول علمياً بعد ان تفرقنا أيدي سبأ وبلقيس وأروى؟، وهل يمكن أن تكون عقلية ابن الكرك والرمثا مثل عقلية الحلبي والدمشقي واللاذقاني..؟.

وليس هذا السؤال الوحيد، فهناك نقاط غامضة كثيرة في هذا البحث الممتع الذي يظل لصاحبه مهما جردناه من فضائل الأسلوب العلمي شرف المحاولة، فالدراسات النفسية والاجتماعية قليلة في بلادنا، وما أحوجنا إلى أمثال هذا الكتاب لنشاهد أنفسنا في مرايانا.