من داشاو إلى الدهيشة

TT

«كان الوقت ظهرا. لكنهم كانوا جميعاً قد افاقوا منذ منتصف الليل، عندما اقتحمت القوات الاسرائيلية المخيم تدعمها نيران الدبابات وطائرات الاباتشي المدفعية، بحيث بدا المشهد مثل احتفال للصوت وضوء الليزر، فيما اخذت اصوات القنابل تهز الجدران والنوافذ. لقد انتهى غزو الدهيشة العاصف، المرعب غير المقاوَم، خلال نصف ساعة فقط. وعندما حل الصباح امر الاسرائيليون جميع الذكور من سن 14 الى 45 بالخروج من منازلهم وايديهم فوق رؤوسهم».

هذه مقدمة الرسالة التي كتبها مراسل «الواشنطن بوست» الى صحيفته يوم الاثنين. وفيما اخذت اقرأها، رحت اتذكر تلك الروايات والكتب والافلام الوثائقية التي قرأتها او شاهدتها على مر السنين حول ما تعرض له اليهود في المانيا وفرنسا وبولونيا على ايدي النازيين والانظمة المؤيدة لهم، او المتحالفة معهم. ومن كل ما قرأنا وسمعنا، بقي في ذاكرتنا اكثر من اي شيء آخر معسكر «داشاو». ولعل ترجمته الى العربية، الدهيشة.

بقيت في ذاكرتنا، من الروايات والافلام والافلام الوثائقية، صور رجال «الصاعقة» بمعاطفهم اللماعة وقبعاتهم العريضة وجزماتهم الطويلة الاعناق، وهم ينادون على اليهود في الاحياء: «اخرجوا الآن وسلموا انفسكم. كل من يؤوي يهودياً سوف يعاقب هو ايضاً». وكانوا يطوقونهم ويذهبون بهم. ولكن من دون اصوات مدافع واضواء ليزر وطائرات «اباتشي». وكانوا يوقظونهم عند منتصف الليل من اجل ان تنهك قواهم عند ساعة الاعتقال.

نجحت افلام هوليوود الرائعة الاخراج والتصوير والالوان والتمثيل الباهر، في احياء مشاهد الحرب العالمية الثانية من اجل زرعها في ذاكرة العالم. ورسخت في الذاكرة صور كثيرة: صور طوابير اليهود يقادون الى مواقع مجهولة. صور الضابط الالماني يصرخ ويضرب جزمته اللماعة بعصاه. صور الناس تستغيث. صور الاطفال يُهرَّبون الى اماكن بعيدة. وكانت كلها صوراً مأساوية. حقاً مأساوية. وصورة الضابط الالماني الوحشي الملامح يدعو الجميع للخروج الى الساحات. ومنها الى المعسكر. الى داشاو. الى الدهيشة. كم كان المنظر قبيحاً. والنفس قبيحة. والاوامر قبيحة.

قرأت في الماضي الكثير من اعمال اسحق باشفيز سينغر، اليهودي البولوني الذي صوَّر بمهارة فائقة حياة «الغيتو». ولو عاش غسان كنفاني طويلاً لكان هو اسحق باشفيز سينغر الفلسطينيين. لكن ليس مسموحاً للفلسطينيين ان يكون لهم هذا الترف الفكري والوجداني. ويجب ان تتسع المأساة من دون شهود. وان يمر هتلر بالمخيمات من دون مراسلين. ولسنا ندري ماذا جاء يفعل مراسل «الواشنطن بوست» في الدهيشة، من اجل ان يصف لقرائه في العاصمة الاميركية الجليلة كيف ينادى على الناس هكذا: «كل ذكر من سن 14 الى 45». لا يهم ماذا يكون ومن يكون ومدى انخراطه ومدى «براءته». فهم جميعاً من فئة واحدة تدعى الفئة الفلسطينية. وهم جميعاً سكان مخيم واحد يدعى الدهيشة، او داشاو. والتهمة واحدة للجميع: تهمة الانتساب الى حياة العذاب والمخيمات والفقر. وقائد الحملة على الدهيشة هو الجنرال موفاز. لك التحية ايها الجنرال موفاز: هايل هتلر. هايل هتلر.

ابتسموا، انتم في داشاو. انها مجرد حملة امنية تفتيشية بسيطة: دبابات واباتشي تشعل المخيم وترعب الاطفال والنساء وبعدها يأتي دور مكبرات الصوت: «كل من هم بين 14 و45». فقط. الباقون لم تحن اوقاتهم بعد. والمشكلة طبعاً مشكلة سعة. لقد امتلأت سجون «الصاعقة» الاسرائيلية بفائض المدافن الفلسطينية. واختلط الامر على دائرة الاحصاء في «جيش الدفاع الاسرائيلي» حارس «الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط». مشكلة الذاكرة البشرية انها تسارع الى المقارنة والمطابقة. حتى الاسماء تتشابه. داشاو او الدهيشة.