هروب اليهود من إسرائيل

TT

يدور في داخل اسرائيل حوار حول مستقبل اسرائيل في اقليم الشرق الاوسط، بعد ان لوحظ هروب اليهود من الوطن القومي بعد ان ثبت لهم بأنه من أساطير الاولين المأخوذة من حكايات الجدات للاحفاد عند ساعات النوم في مرحلة الشتات اليهودي ليقنعوا صغارهم بأن لهم وطنا كبقية الامم والشعوب بدون سند تاريخي او نص واضح في التوراة.

الحياة في داخل اسرائيل فرضت الاحباط لانها لم تحقق الحياة الرغدة التي وعدوا بها من بعد الهجرة اليها، ووصلت الى الانكسار بعد وصول ارييل شارون الى سدة الحكم في بداية العام الماضي 2001 بالحرب التي فرضها ضد الفلسطينيين ليحقق بها الامن للمواطن الاسرائىلي فانقلبت هذه الحرب عليه حتى اصبح يواجه الموت اما بارساله الى القتال واما بتلقي ضربات الفلسطينيين، خصوصا بعد ان لجأوا الى العمليات الاستشهادية. وزاد من نتائج هذه الحرب عليهم التدهور الاقتصادي الذي فرض عليهم خيبة الأمل في كل ما هو قادم والندم على تركهم لاوطانهم الاصلية التي كانوا ينعمون بالحياة الطبيعية المستقرة فيها، وجاءوا الى وطن لا ينتمون اليه يزعزع حياتهم فيه.

قامت مظاهرات شعبية صاخبة في داخل اسرائيل ضد القتال الذي يمارسه شارون وجنده، وهي في حقيقتها تمثل رأيا عاما اسرائيليا يرفض ارهاب الدولة، لان نتائجه على المواطن الاسرائيلي اكبر واخطر من نتائجه على الفلسطينيين المستهدفين من هذا الارهاب. وبذلك يلتقي هذا التيار الشعبي في داخل اسرائيل مع الرأي العام العالمي ضد ارييل شارون والاركان المتطرفة في حكومته، التي اخذت تواجه من الخارج سياسات ترمي الى عزلها عن المجتمع الدولي لتطاولها على احكام القانون الدولي العام، وتعاني في الداخل من المواجهة الشعبية التي فرضت انشطار المجتمع الاسرائيلي الناتج عن فقدان الحكومة لثقة الجماهير فيها بعد ان عجز رئيسها ارييل شارون عن الوفاء بوعده في تحقيق الامن الاسرائيلي بالانتصار على الانتفاضة الفلسطينية في مائة يوم، وبعد مضي اكثر من عام على حكمه ظلت الانتفاضة تواصل الكفاح الوطني وطورت ادواتها القتالية المحدودة بالعمليات الاستشهادية التي قلبت موازين القوى في المواجهة مع الجيش الاسرائيلي، حتى اصبحت الحرب لا تخيف الشعب الفلسطيني الراغب في القتال حتى الموت الى الدرجة التي جعلته يحارب الموت بالموت، وهذا ما جعل الشعب الاسرائيلي في حالة رعب من الحرب بعد ان اعلنت الحكومة الاسرائيلية عن قلقها من السلام الذي لا تريده لعدم رغبتها في التنازل عن الارض.

اذا كان الرأي العام العالمي يتذبذب ضد ومع اسرائيل وفقا للعبة المصالح التي تحكم العلاقات الدولية وما تفرضه من ضغوط تؤدي الى تبديل المواقف فإن الرأي العام الاسرائيلي ثابت ضد ارييل شارون وحكومته، لأن مسلكه العسكري ضد الفلسطينيين يضر بمصلحة المواطن الاسرائيلي ويفرض عليه الاحساس الدائم بالخطر، حتى اصبح امامه خياران، اما اسقاط رئيس الوزراء ارييل شارون بانتخابات مبكرة تأتي برجل الى سدة الحكم يؤمن بأهمية السلام ويشعر بخطورة الحرب واما هروب اليهود من اسرائيل والعودة الى اوطانهم الاصلية خصوصا انهم جميعا يحتفظون بهويتهم الوطنية اليها تحت مظلة ازدواج الجنسية.

يبدو ان الاختيار وقع على الهروب لأن المواطن الاسرائيلي من خلال تجربة الحياة في الوطن القومي اليهودي تجعله لا يطمئن الى وصول رجل معتدل الى الحكم، بدليل ان كل من وصل الى السلطة طوال النصف القرن الماضي كان يمارس ارهاب الدولة ضد الفلسطينيين بصور مختلفة ونسب متفاوتة، واتضحت معالم هذه الحقيقة من الخطابات المرسلة من مواطني اسرائيل الى ذويهم في كافة الدول التي جاءوا منها، وكلها تحذرهم من الهجرة الى اسرائيل والبقاء في اوطانهم لأن الحياة في الوطن القومي اليهودي لا تطاق ولان الموت يخيم على رؤوس مواطنيها بصورة تجعلهم في حالة رعب دائم من الموت المتربص بهم طوال ساعات الليل والنهار في كل مكان.

لم يقتصر دور المتضررين من الحياة في داخل اسرائيل بتحذير ذويهم من الهجرة اليها بالخطابات المرسلة اليهم او بالمكالمات الهاتفية معهم وانما اخذ المتظاهرون يحرضون القاطنين بإسرائيل على الهروب منها وتجسد ذلك التحريض بما قاله احد الخطباء في تلك المظاهرات الشعبية «لقد خدعنا بالمجيء الى هذه الارض المضطربة بالقتال والمتردية بالفساد السياسي والمعانية من الخلل الاقتصادي والمفككة بعدم التجانس الاجتماعي» وطالب بالهروب منها انقاذا للنفس والولد والمال، واعلن في الناس بأن الهروب قد بدأ بالفعل فلقد وصل عدد الفارين منها بجلدهم الى 600 الف يهودي ولم يهاجر اليها احد من اليهود طوال العام الماضي ومعنى ذلك ان اسرائيل فقدت مقومات بقائها في الاقليم لان تفريغ الارض من اهلها لا يقابله توطين اليهود فيها.

اكد هذه الحقيقة المفكر الاسرائيلي امنون دنكز بما نشره في صحيفة معاريف عن عدم قناعة الشعب اليهودي بالفكر الصهيوني الذي يقرر باستمرار اسرائيل الى الابد في موقعها الاقليمي، ويرجع عدم القناعة بالوطن القومي اليهودي الى فشل القيادات السياسية في التعامل مع المشاكل الامنية والاقتصادية والاجتماعية ويزيد من فشلها ادران البيروقراطية في جهازها الاداري الذي تمكن من السيطرة على الزعماء السياسيين والقادة العسكريين وصعّد ذلك العديد من المشاكل غير القابلة للحل طوال العقود الماضية منذ قيام اسرائيل في سنة 1948 الى وقتنا الحاضر في سنة 2002.

هذه الاوضاع المتردية جعلت الاسرائيليين منذ نشوء اسرائيل ينتقدون المجتمع الذي يعيشون فيه بعد وصولهم الى القناعة التامة بأنها دولة مزروعة في ارض ليست لها وبالتالي تفتقد الى الدعائم الراسخة فوق هذه الارض بكل ما يترتب على ذلك من فساد عام في كافة مناحي الحياة مما جعل كل الناس يعيشون في حالة احباط ناتج عن عدم الاطمئنان في المستقبل، فاندفع الشباب الى الهروب منها بحثا عن مجتمعات مستقرة تقدم لهم سبل حياة افضل. وجاء في مقدمة الهاربين منها ابناء واحفاد القادة السياسيين الاسرائيليين واختاروا الحياة الدائمة اما في الولايات المتحدة الامريكية او في العديد من الدول الاوروبية. وفسر القادة السياسيون الاسرائيليون خروج ابنائهم واحفادهم الى خارج الوطن بهدف خدمته في الدول التي اختاروا الاقامة بها.

خطورة هذا الهروب اليهودي من الوطن الاسرائيلي جعل رئيس البرلمان «الكنيست» ابراهام بورج يتحرك صوب المفاوضات مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في رام الله، ولن يثنيه عن ذلك مرة أخرى رئيس الوزراء ارييل شارون. وقررت الدوائر البرلمانية المشكلة من كافة الاحزاب تشكيل الوفد البرلماني المرافق لابراهام بورج منهم جميعا واعلن المتحدث الرسمي باسم البرلمان بأن الهدف من هذا التفاوض الوصول الى اتفاق يوازن العلاقة بين الاسرائيليين والفلسطينيين ليحد وربما ليلغي حركة الهروب من اسرائيل.

في ظل هذا المناخ السياسي الداخلي بإسرائيل سارع رئيس الوزراء ارييل شارون الى الغاء الاقامة الجبرية على ياسر عرفات في رام الله وبعث بوزير خارجيته شيمون بيريز للتفاوض مع الفلسطينيين على السلام ليغلق ابواب التفاوض في وجه رئيس البرلمان ابراهام بورج ويمنع البرلمان المختص بالتشريع من القيام بمهام السلطة التنفيذية. ولكنه كثف عمليات العدوان العسكري على الشعب الفلسطيني بصورة تثبت زيف التوجه السلمي من قبل الحكومة الاسرائيلية التي تواصل قتلها للناس الذين تتفاوض معهم على السلام. وزاد من عدم ثقة المواطنين الاسرائيليين في حكومتهم مسلكها المصاب «بالشيزوفرينية» (انفصام الشخصية) المتمثل في جمعها في وقت واحد بين التفاوض على السلام مع الفلسطينيين وبين التوسع في ارهاب الدولة عليهم مما جعل مواطنيها يصرون على الهروب منها ملوحين لها بأيديهم شالوم اسرائيل.